يؤلمهم البرد، ويقرصهم الجوع، ويؤرقهم الخوف على مستقبل أبنائهم، ولكن ما يجعلهم يشعرون بالحسرة والأسف والتصدع من الداخل هو عدم مبالاة نظام الرئيس بشار الأسد للظروف المأساوية التي يعيشها اللاجئون في مخيمات اللجوء المهترئة، في لبنان، والأردن، وتركيا، وهم الذين تتقاذفهم موجات الثلوج، وتعصف بهم الرياح العاتية. ليس بحوزتهم طعام، ولا يستر أجسادهم ما يدفع عنهم الإحساس بالتجمد. ورغم أن بطونهم فارغة، فإن قلوبهم عامرة، وعيونهم شاخصة نحو السماء، تسأل الله القدير أن يزيل عنهم الكابوس الذي جثم على صدورهم عقودا من الزمن، أذاقهم فيها العذاب ألوانا، وتفنن في العبث بمصائرهم، وربط ماضيهم ومستقبلهم بأجندة إيرانية عفا عليها الزمن، وتجاوزتها مفردات العصر، وأصبحت ماضيا تتندر به الدول التي اختارت لمواطنيها أن يسلكوا سبل التقدم، وأن يبحثوا عن الرفاه. لم يعرف السوريون يوما العيش في الخيام، لكنهم ذاقوا مرارة اللجوء، وذل الحاجة على يد نظام الأسد، الذي شرد الملايين منهم، لا لشيء إلا لأنهم "أخطؤوا" عندما طالبوا بالكرامة والحرية والعيش الكريم. ودعوا إلى إنهاء عقود الخوف والإقصاء والتهميش، وتكميم القلوب قبل الأفواه. لم يدر بخلدهم أنهم سيضطرون يوما لعبور حدود بلادهم، خائفين يترقبون، وهم الذين تضج جوانبهم بالكرامة والنخوة العربية الأصيلة، والذين لم يتوانوا يوما عن فتح أبواب قلوبهم قبل ديارهم لكل من طلب العون، أو سأل عن ملاذ آمن، أو احتاج إلى لقمة وكساء. فوقفوا إلى جانب إخوتهم الفلسطينيين عندما طالتهم أيادي الغدر الصهيونية، وآووا إخوتهم العراقيين عقب الاجتياح الأميركي، وساعدوا اللبنانيين عندما اعتدى عليهم جيش الاحتلال الإسرائيلي. قسوة مفرطة بدون سابق إنذار، وجه النظام الأسدي فوهات مدافعه نحو صدور أبناء الشعب الأعزل، ولم يتركوا أسلوبا دمويا إلا اتبعوه، فاستخدموا قذائف الدبابات والمدافع والصواريخ، وأرسلوا الطائرات تصب حممها على رؤوس المدنيين، حتى الكيماوي لم يتورع بشار عن استخدامه، في جريمة أسالت دموع الإنسانية، وهزت ضمير العالم أجمع، راح ضحيتها آلاف النساء والأطفال. لم يكتف حلفاء إيران بذلك، وكأن أساليب العذاب كافة لم تقنعهم، فابتكروا أسلوب البراميل المتفجرة التي تلقى عشوائيا من الطائرات على مناطق المدنيين، فتحصد روح كل من أراد له حظه العاثر أن يكون موجودا في المكان. السوريون الذين كانوا حتى وقت قريب شعبا عزيزا في أرضه، وسادة يتكئون على ماض عامر وذاخر، وأصحاب حضارة موغلة في القدم، نعموا بمردودها عندما كان الآخرون يعانون الجهل، وتفتك بهم الأمية، وجدوا أنفسهم، فجأة، يتيهون في أصقاع المعمورة، ويبحثون عن دول ترضى بأن تستضيفهم كلاجئين، بعد أن لعبت سكرة السلطان بحكامهم، الذين ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا أدوات يحاول الواهمون أن ينفذوا بها أحلامهم العتيقة "بعودة أمجاد الإمبراطورية الفارسية". تعنت النظام كل هذا حدث في غمضة عين، وصم النظام أذنيه عن كل دعوة مخلصة أرادت وضع حد للأزمة، وأغلق عقله أمام نصائح الآخرين. حتى التهديد لم يجد معه فتيلا، وكأنه مصمم مهما كلفه الأمر على إكمال مهمته المتمثلة في إبادة الشعب الأبي، وتدمير البلاد التي كانت ذات يوم بهجة الدنيا وزينتها. وإذا كان قدر السوريين أن يتعرضوا إلى قسوة الطبيعة، ويضطروا لافتراش الأرض تحت وطأة الصقيع وزمهرير الشتاء القاسي، وأن يفترشوا الأرض ويلتحفوا السماء، بصدور مكشوفة وأمعاء خاوية، إلا أن مصيبتهم الكبرى وسوء حظهم الأكبر جعلاهم ينتمون إلى بلاد أعطى قادتها لضمائرهم إجازة مفتوحة، ورضوا بأن يعيشوا مرفهين في قصورهم الوثيرة، وأن يصموا آذانهم عن صراخ رضيع استبد به الجوع، وليس لأمه ما تسد به رمقه، أو دموع طفل راودته ذكرى والده الذي طالته أيدي الغدر، أو نحيب امرأة استعادت ذكرى زوج توفي وتركها تحمل مسؤولية تؤرق مضجعها. خيام تحت الثلوج وتشير الأنباء الواردة من لبنان إلى أن أكثر من مليون و200 ألف لاجئ سوري عليهم أن يواجهوا هذه الظروف المناخية الصعبة، خاصة في ظل بطء وصول المساعدات، وتردي أوضاع المخيمات التي تؤويهم. ومما يزيد المخاوف الأنباء التي تواترت على وسائل التواصل الاجتماعي بوفاة رضيعة في مخيم بمنطقة البقاع، وطفلة في سن العاشرة بسبب البرد في مخيم عرسال، لا سيما أن لبنان يشهد حالة من البرد الشديد المرافق للعاصفة "زينة" التي تضرب البلاد. ومما يضاعف معاناة اللاجئين السوريين ويزيدها سوءا وفظاعة، انسحاب مفوضية الأممالمتحدة لشؤون اللاجئين والكثير من المنظمات الدولية منها بعد المعارك الأخيرة. وأكدت مصادر إعلامية أن الاستعدادات في مخيمات اللاجئين لهذه العاصفة بسيطة، وتتمثل في جعل الخيام المصنوعة من القماش أكثر متانة، وهناك تخوف كذلك من وجود نقص في الأدوية، خاصة أدوية الأطفال، وفي المحروقات اللازمة للتدفئة رغم المساعدات الأممية المحدودة. وقد فرضت العاصفة "زينة" حصارا على عدد من اللاجئين السوريين، وغطت الثلوج نحو 40 خيمة في مجدليون قرب مدينة بعلبك، في مخيم يقع ضمن منطقة تسببت العاصفة بقطع المواصلات عنها. كما تسببت في مقتل أحد الرعاة السوريين في منطقة الرشاحة قرب شبعا جراء العاصفة. مأساة العصر ويشرح أحد اللاجئين في مخيم عرسال مأساته وزملائه ساكني المخيم بالقول "نعاني من انعدام الغذاء، المحظوظون منا يعانون من قلته وندرته، أما الغالبية العظمة فهي بلا مؤونة على الإطلاق، وتعيش على بعض الصدقات التي يقدمها محسنون يغامرون بحياتهم لأجل مدنا بما يبقينا على قيد الحياة. أطفالنا يصرخون أمامنا من الجوع، دون أن تكون لنا القدرة على إسكاتهم وإطعامهم. البرد يعصف بعظامنا ويزلزل كياننا. حتى الأغطية ليست متوافرة". ويمضي بقوله "نعيش ظروفا مأساوية لا يمكن لشخص أن يتخيلها، وحالنا أسوأ من حال ساكني القرون الأولى. ولا أدري لم يصمت العالم على هذه المأساة التي تمثل وصمة عار في جبين الإنسانية والحضارة. هل يتصور إنسان أن هناك أطفالا يموتون من البرد والجوع، بينما يعاني آخرون من التخمة والشبع؟". أما في الأردن فلم يكن الحال أفضل حالاً، فقد دهمت الأمطار المتساقطة، التي تنهمر منذ فترة، آلاف الخيام في مخيم الزعتري، الذي يقع على مقربة من الحدود السورية، ويؤوي نحو 65 ألف سوري. ويستضيف الأردن ما يقارب 630 ألف لاجئ. كما تسببت الرياح القوية التي وصلت سرعتها إلى 100 كيلومتر في الساعة الواحدة، في اقتلاع عدد من الخيام وتمزقها، مما اضطر عددا كبيرا من ساكنيها إلى حفر خنادق صغيرة حول خيامهم لحمايتها من الأمطار والأوحال التي باتت تغطي أرجاء المخيم كافة. التدفئة بالدخان ويشير أحد اللاجئين في مخيم الزعتري إلى أنه لم يجد حلاًّ سوى جمع بقايا الأخشاب والكرتون لإشعالها، علها تمدهم بقليل من الدفء، على الرغم من الدخان الذي يتسلل إلى صدور أطفاله، لكنه يؤكد أنه من النادر توفر وسيلة تدفئة تقيه من البرد سوى الأغطية، مما يضطره إلى حرق المخلفات، لعلها تخفف من وطأة البرد. وأكد مدير إدارة مخيمات اللاجئين السوريين في الأردن، العميد وضاح الحمود، أن إدارته اتخذت كل الإجراءات اللازمة بمخيم الزعتري الذي يعد أكبر مخيمات اللجوء الأردنية الخاصة بالسوريين، مشيراً إلى أنه على الرغم من الاستعدادات التي اتخذت إلا أن ضيق الإمكانات يقف حائلا دون تقديم المزيد من الخدمات للاجئين، مؤكداً أن الحكومة ضاعفت الموازنة المرصودة لإغاثة اللاجئين، إلا أن المبالغ المطلوبة لتوفير ظروف أفضل أكبر من قدرة إدارته. وقال "مملكة الأردن قدمت كل ما تستطيعه، ولم تدخر جهدا في سيبل مساعدة إخوتنا السوريين، إلا أن الوضع يتطلب من الدول المانحة والمؤسسات المالية العالمية أن تتحرك بصورة أكثر جدية، وما لم يحدث ذلك فلا نستبعد وقوع كوارث إنسانية". جهود أردنية ومضى بالقول "تم التنسيق مسبقا ومنذ وقت طويل مع جميع المنظمات الدولية العاملة في مخيم الزعتري، كل حسب تخصصه لاتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة لتفادي أي مشكلات قد يتعرض لها المخيم، لا سيما أن مخيم الزعتري الواقع في بيئة صحراوية قد تعرض في السنوات السابقة لغرق عشرات الخيام التي يقطنها اللاجئون السوريون في فصل الشتاء، نتيجة البنية التحتية الضعيفة مقارنة بباقي المخيمات الأخرى، فضلا عن مشكلة انقطاع التيار الكهربائي المستمرة. ويختم الحمود بالقول إن إدارة شؤون اللاجئين السوريين بالتعاون مع الجهات المعنية والمنظمات الدولية، نقلت المتضررين إلى مخيم الأزرق للاجئين السوريين. مشيراً إلى أن 400 عائلة تم نقلها إلى مخيم الإماراتي "مريجيب الفهود" والعمل على نقل 1800 عائلة إلى مخيم الأزرق، حيث تتوافر بيوت جاهزة وخدمات. ورغم الظروف الجوية الصعبة فإن قوات حرس الحدود تعاملت خلال اليومين الماضيين مع عشرات اللاجئين المتدفقين عبر الحدود، واستقبلوا عشرات اللاجئين، معظمهم من النساء والأطفال والشيوخ، وقدموا لهم الخدمات كافة خلال نقلهم إلى المخيمات الرسمية. استجابة تركية أما في تركيا فالحال لا يختلف كثيرا من حيث المعاناة، حيث وجد كثير من اللاجئين أنفسهم تحت وطأة البرد القارس، وانعدام الأغذية والملابس الثقيلة، إلا أن حظهم كان جيدا، حيث تفاعلت حكومة أنقرة إيجابا معهم، ووجه رئيس الوزراء التركي، داود أوغلو، قوات بلاده المسلحة بإجلاء آلاف اللاجئين السوريين من مخيماتهم الواقعة على الحدود بين البلدين، وإدخالهم الأراضي التركية، إضافة إلى تأمين المأوى المناسب، بعدما اقتلعت خيامهم رياح العاصفة الثلجية التي تجتاح المنطقة. كما وتكفلت أنقرة بتوفير الغذاء والكساء للاجئين، إضافة إلى نقل المرضى المتأثرين بحالات البرد للمستشفيات فورا لتلقي العلاج. وكان ناشطون قد وجهوا نداءات استغاثة بعدما اقتلعت الرياح خيام اللاجئين في مخيمي أطمة وأورينت على الحدود السورية التركية. إضافة إلى مخيم باب السلامة الذي يقطنه 17 ألف لاجئ، حيث جرفت مياه الأمطار أرض المخيم ذات الطبيعة الزراعية، علما بأن غالبية سكان المخيمات الحدودية من النساء والأطفال. كما أعلنت بلدية إسطنبول عن استقبال السوريين الذين لا مأوى لهم في المدينة، وذلك ببعض الصالات الرياضية، وخصصت رقما هاتفيا للاتصال ومساعدة أي سوري يلزمه مأوى، أو دواء، وغذاء، خلال فترة مرور العاصفة الثلجية. عين على المستقبل وأيا كانت المساعدات، ومهما بلغ حجم التعاطف الدولي مع معاناة السوريين، إلا أن من نشأ على عزة النفس، واعتاد أن تكون يده هي العليا، لن يهنأ بما يجود به الآخرون عليه، ومن تعرض إلى ظلم ذوي القربى لن تنجح كل كلمات اللغة في تخفيف مصابه أو التهوين من معاناته، ومن اعتاد أن يعيش عزيزا على أرضه وبين عشيرته لن تسعه إلا بيئته. فالشعب السوري المكلوم لم يكن يتخيل يوما أن حكامه المفترضين سيجعلون بلاده قفرا يبابا تسأل عن ساكنيها الذين تقاذفتهم النوائب والنكبات، والأرض التي كانت ذات يوم معطاءة تخرج خيراتها النضيرة لن يرضيها أن تكون جرداء بورا، وسيأتي يوم تعود فيه الأمور إلى ما كانت عليه.