قبل أكثر من ثلاث سنوات كان اليمنيون يئنون من أوضاع اقتصادية واجتماعية صعبة، ناهيك عن صراع محتدم وشرس بين فرقاء الحياة السياسية، وبعد احتجاجات أخرجت الملايين إلى الشارع، أدت إلى إخراج الرئيس السابق علي عبدالله صالح من رئاسة البلاد، بدا وكأن البلد تتجه إلى الاستقرار، إلا أن ما يعيشه اليمن اليوم من أزمات مركبة وأوضاع اقتصادية مزرية، يؤكد أنه يسير في طريق الفوضى، فمن هو المسؤول عن هذه الأوضاع، وهل هناك بوادر أمل في أن تخرج البلاد من عنق الزجاجة؟ لعبة صالح بعد احتجاجات عام 2011، التي أدت إلى تغيير في النظام السابق، كان الكثير من اليمنيين يدركون أن المستقبل لن يكون مفروشاً بالورود، لكنهم لم يكونوا يعلمون أن الأوضاع ستكون بمثل هذا السوء. رحيل صالح وتغيير النظام السابق لم يكن كاملاً، فعلى الرغم من خروجه من السلطة ظل نصف صالح وأكثر هو الذي يحكم، بموجب المبادرة الخليجية، التي قاسمت السلطة بين صالح ومعارضيه، وأبقت على رئاسة الدولة في يده، ممثلاً في نائب الرئيس السابق (الرئيس الحالي عبدربه منصور هادي)، بالإضافة إلى رئاسة مجلسي النواب والشورى وغالبية المحافظين ال22، بواقع 18 محافظاً مقابل أربعة لخصومه، ومئات الوكلاء ومساعديهم. من كان يعتقد أن صالح سيسلم الراية بسهولة كان مخطئاً، لقد أدار الرجل اللعبة السياسية ضد خصومه بمهارة كبيرة، صحيح أنه لم يكن صانع قرار، لكنه كان قريباً من صناعه ومؤثراً فيه، وبدا وكأن الرجل هو الذي يحكم وليسوا خصومه. بعد أكثر من عامين ونصف العام من تسليمه مقاليد الحكم لنائبه عبدربه منصور هادي لا يزال صالح أكثر الحاضرين في المشهد السياسي اليوم، وتجسد هذا الحضور والتأثير في عيد الفطر المبارك عندما حضر إلى المسجد الذي يحمل اسمه في العاصمة صنعاء لأداء صلاة العيد، مشاركاً الحدث الرئيس هادي وخصمه حليفه القديم مستشار الرئيس لشؤون الأمن والدفاع علي محسن الأحمر، والذي ارتبطت التغييرات الكبيرة في 2011 باسمه باعتباره "حامي الثورة"، كما يحلو لأنصاره التعريف به. وعلى الرغم من أن خصوم صالح سعوا في فترات مختلفة بخنقه سياسياً، إلا أنه كان يجد في نهاية المطاف وسيلة للنجاة، تجلى ذلك في عدد من المحطات الرئيسة التي عاشتها البلاد، بخاصة الأحداث التي شهدتها مناطق شمال الشمال، حيث سقطت إمبراطورية مشيخة حاشد في عمران، والتي اعتبرها البعض معركة صالح الأولى قبل أن تكون معركة جماعة الحوثي التي تمكنت من إلحاق هزيمة كبيرة بأبناء الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر في منطقة نفوذهم الكبرى بعمران وغيرها، مهد ذلك الطريق لهزيمة حزب التجمع اليمني للإصلاح في عمران، التي سقطت في الثامن من شهر يوليو الماضي في أيدي الحوثيين. وبدت مصالحة صلاة عيد الفطر المبارك تكريساً لحضور صالح في المشهد السياسي، وهو اعتراف بدوره في اللعبة السياسية التي أجادها خلال فترة حكمه الممتدة لأكثر من 33 عاماً، أدى فيها بإتقان لعبة الرقص على رؤوس الثعابين، كما كان هو نفسه يفاخر بها. "جرعة الموت" بعد أكثر من عامين ونصف العام، مازال اليمنيون يعيشون على إيقاع أزمات لا تعد ولا تحصى، لا تبدأ بالأزمات الاقتصادية ولا تنتهي عند غياب الخدمات الأساسية التي ضربت خلال السنوات الماضية. منظر وقوف المواطنين أمام محطات البنزين خلال الأشهر الخمسة الماضية، أمر لم يتكرر كثيراً خلال مرحلة ما قبل الأزمة وما بعدها، صحيح أن البلاد كان تفتقر إلى المشتقات النفطية في عهد صالح، إلا أنها كانت تتوفر سريعاً ولا تزيد الأزمات عن أيام، أما اليوم فإن افتقاد الناس للنفط والديزل استمر لأكثر من خمسة أشهر. لم يفتقد المواطن البسيط المشتقات النفطية فحسب، بل الأمل في معالجة هذه الأزمة التي لم يتعودها خلال السنوات السابقة، فقد كان بعض الناس ينتظر حصته لساعات والبعض الآخر ليوم كامل للحصول على ما يريده من البنزين والديزل. هذا الأمر سحب نفسه على مناحي الحياة كافة، فحركة الناس خفت، والمزارعون جفت مزارعهم وقل إنتاجهم، وبدؤوا باللجوء إلى السوق السوداء لشراء مادة الديزل، حيث ارتفع سعر صفيحة الديزل من 2100 ريال (نحو 10 دولارات) إلى ما يقرب من 10 آلاف ريال، وهو ما يوازي نحو 50 دولاراً، مما رفع معه سعر المنتجات الزراعية من فواكه وخضروات. بسبب هذا الوضع البائس اضطرت الحكومة إلى معالجة هذه الأزمة بتحرير أسعار مادتي الديزل والبترول، وهو ما صار معروفاً في اليمن بمصطلح "جرعة الموت"، خاصة أن هذه الخطوة رفعت أسعار هاتين السلعتين إلى نسب تتراوح بين 70 % (البنزين) إلى ما يقرب من 100 % للديزل. ورغم أن الحكومة بررت هذا الإجراء بأن الدعم الذي كانت تقدمه لهاتين السلعتين يذهب إلى جيوب المهربين؛ فإن الإجراء كشف عن عجز مهول للحكومة في السيطرة على منابع الفساد التي لو تمت السيطرة عليها لوفرت ملايين الدولارات ولما لجأت إلى رفع أسعار المشتقات النفطية. ويرى محللون أن الحكومة استعجلت واختارت أقصر الطرق لتغطية عجز الموازنة من خلال إقرارها رفع الدعم عن المشتقات النفطية، بالرغم من أنها كانت أمام عدة حلول تتمثل في وقف إهدار النثريات المقدرة بعشرات ملايين الدولارات التي تُصرف بدواع ومبررات وأسباب وهمية، وفرض وتثبيت الأمن والاستقرار وضبط المخربين والمعتدين على أنابيب النفط وخلق بيئة جاذبة للاستثمارات. ولفت هؤلاء إلى صحة فرضية وقوف ضغوطات من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وراء صدور القرار، ولكن مع ذلك يجب على حكومة الوفاق الوطني مراعاة ظروف المواطنين من أصحاب الدخل المحدود، كون القرار سيترتب عليه بكل تأكيد ارتفاع أسعار أغلب السلع والخدمات الأساسية والضرورية اليومية. ويقول مسؤولون في الغرفة التجارية الصناعية في العاصمة صنعاء إن القرار كان متوقعاً ومرتقباً، نظراً لتضخم العجز في الميزانية العامة للدولة وتراجع إيراداتها لأسباب الاختلالات المرتبطة بمجالات العائدات المالية من المشتقات النفطية، وأنه سبقته تهيئة الشارع للقرار واتخاذ خطوات لمعالجة الاختلالات شملت إيقاف النفقات العامة والاستمرار في النفقات الجارية. ويشيرون بالقول إلى أن البدائل المتاحة أمام الحكومة لتجنب إصدارها قرار رفع الدعم عن النفط، تتمثل في تجفيف منابع الفساد بمختلف أشكاله وأنواعه، وضبط عمليات التهرب الضريبي والجمركي المخالفة للقانون وغير المشروعة، ولكن الحكومة بعد دراسة قرار المشتقات النفطية منذ حوالي شهر فبراير المنصرم، رأت ضرورة إصدار القرار ترافقه حزمة إصلاحات اقتصادية، باعتباره الخيار الأنسب والأسهل، وبالتالي أصدرته خلال فترة إجازة عيد الفطر المبارك بهدف امتصاص حدة الغضب الشعبي، وتجاوز الصعوبات والأوضاع الاقتصادية وتفادي الانهيار الاقتصادي في البلاد، نتيجة للتحديات الأمنية والعسكرية وضعف إدارة الدولة. وأكد هؤلاء أن القرار سيؤدي بدون شك إلى ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية، بسبب ارتفاع أسعار أجور النقل والمواصلات خصوصاً السلع المستوردة والمتنقلة، لأن العملة المحلية ستصبح غير قادرة على تلبية الاحتياجات من المنتجات المختلفة. مدن مظلمة يعاني اليمن منذ سنوات طويلة من نقص في الكهرباء، إلا أن هذا النقص تزايد كثيراً خلال السنوات القليلة الماضية، فإنتاج الكهرباء لا يزال ضعيفاً قياساً بالطلب على الطاقة الكهربائية التي تتزايد كل يوم. لا يمكن التصديق أن بلداً يقطنه نحو 25 مليون إنسان لا يتوفر فيه أكثر من 800 ميجاوات من الطاقة الكهربائية تنتج نصفها محطة مأرب الغازية، والتي تغذي معظم مدن اليمن وقراها، فقد عجز نظام صالح الممتد ل 33 عاماً عن تطوير هذه الخدمة للمواطنين، وذهبت المبالغ المرصودة لتطوير قطاع الكهرباء أدراج الرياح. مشكلة الكهرباء تمتد إلى سنوات طويلة، إلا أنها تزايدت في الآونة الأخيرة بسبب تعرض محطة مأرب الغازية للاعتداءات من وقت لآخر، كان بعضها يصل إلى ثلاث مرات في اليوم، وهو ما يجعل المحطة تخرج عن الخدمة في بعض الأحيان لأيام. هذه الأزمة جعلت الحكومة تطبق ريجيماً قاسياً لمد الناس بالكهرباء، وكانت تصل الانقطاعات في بعض الأيام إلى 12 ساعة وفي أيام أخرى إلى نحو 18 ساعة، مما دفع الناس للجوء إلى المولدات الكهربائية، والتي تعمل بالديزل والبنزين، ومع تزايد الأزمة في هاتين المادتين تضاعفت مشاكل الناس أكثر فأكثر. انقطاع الكهرباء وعدم قدرة الحكومة على معالجة هذه الأزمة أظهر عجز الجيش وقوات الأمن عن حماية أبراج الطاقة التي تتعرض بشكل شبه يومي إلى اعتداءات من قبل رجال قبائل يضغطون على الدولة للحصول على امتيازات من قبيل وظائف لأبنائهم أو للإفراج عن مساجين لدى الدولة في قضايا إرهابية. وكما تعجز قوات الجيش عن حماية أبراج الكهرباء، تعجز أيضاً عن حماية أنابيب النفط التي تعرضت هي الأخرى للتفجير من وقت لآخر معرضة البلد لخسائر كبيرة، تضاف إلى جملة الخسائر التي تتكبدها في الجوانب الأخرى. حروب مصغرة بعد أكثر من عامين لا يزال المواطن اليمني ينشد الأمن، الذي افتقده بفعل صراعات الأطراف المتقاتلة في أكثر من منطقة، فتنظيم القاعدة يتوسع شيئاً فشيئاً في المناطق الجنوبية من البلاد، مقابل تمدد يتعاظم يوماً بعد آخر لجماعة الحوثي في مناطق شمال الشمال، وصلت في الشهر الماضي إلى حد طرق أبواب العاصمة صنعاء بعدما استولت الجماعة على مدينة عمران. هذه المخاطر الكبيرة تتزامن ومظاهر أمنية مقلقة للسلطات، لعل أبرزها ظاهرة التقطعات التي تمارسها بعض الجماعات القبلية، خاصة في المناطق التي تربط العاصمة صنعاء، حيث يتم الاستيلاء على قاطرات النفط القادمة من الحديدة (غرب) ومن مأرب (شرق)، ولا يتم إطلاقها إلا بعد مساومات مالية وبعضها يتم إحراقها، كما حدث في الأسبوعين الماضيين عندما فجر رجال قبائل أربع قاطرات نفط في منطقة الصباحة بالقرب من العاصمة صنعاء. إضافة إلى هذه الظواهر، هناك خروج بعض المناطق عن سيطرة الدولة، حيث تعجز الدولة عن التحكم بها، خاصة تلك التي تقع تحت نفوذ جماعة الحوثي والحراك الجنوبي، الداعي للانفصال، وهذا العجز يتعاظم يوماً بعد آخر، مما يفتح المجال أمام تغول هذه القوى والحلول محل الدولة وأجهزتها الأمنية والقضائية. مستقبل غامض لا تجد مواطناً، ناهيك عن مسؤول في الدولة، يستطيع أن يتنبأ بما ستؤول إليه الأوضاع في البلاد خلال الفترة القليلة المقبلة. "المجهول" هي الكلمة الوحيدة التي يجمع الناس عليها عند حديثهم عن مستقبل البلد، وهذا يعود إلى ضبابية الرؤى لدى مختلف القوى السياسية التي لا تستطيع أن تمنح الناس أملاً في معرفة كيف سيكون عليه اليمن خلال السنوات القليلة المقبلة. صحيح أن الرئيس عبدربه منصور هادي يبدو متفائلاً لجهة مستقبل البلد، إلا أن أحداً لا يستطيع أن يتكهن بمصير بلد تتهدده مخاطر سياسية واقتصادية عدة، فنظام الأقاليم الذي أقره مؤتمر الحوار الوطني لم يختبر بعد، وهناك مخاوف تسيطر على الناس من أن يكون هذا الخيار مدعاة لدخول البلد في دوامة المجهول.