في هذه الزاوية، يسرد الكُتاب حكاياتهم مع الكتابة منذ بدئها الأول، حتى استواء القلم، وانسياب اللغة، إلى احتراف الكتابة.. يقول كاتب زاوية: "حسّ" في "الوطن"، عبدالله ثابت عن حكايته مع الكتابة: لا أحد يعرف مصيره ابتداء، قد يتحسسه في إشارة ما، قد يلوح في كلمة أو في شيء عابر من الحياة، ثم يحدث أن هذه العلامة تكبر وتكبر حتى تصير قدرا وخيارا أخيرا. والإشارات تصدق أحيانا. أظن هذه الإشارة كانت في طفولتي المبكرة، وقد برقت حين كانت تسحرني مكتبة أكبر إخوتي، أحمد، في بيتنا القديم. كان أحمد إذا خرج من البيت يقفل باب مكتبته، ويترك إحدى نوافذها مفتوحة للتهوية، فيأكلني الفضول لاكتشاف تلك الرفوف والكتب الكثيرة. وكنت إذا تيقنت من مغادرته انطلقت فورا إلى الجهة الجانبية من البيت، من الخارج، ثم أضع جالونا صغيرا وأصعد عليه، وأتطاول النافذة حتى أقف على حدها، ثم أحشر جسدي الصغير بين قضبانها العمودية حتى أدخل. لا أنسى حين دخلتها أول مرة. كنت وقفت دقائق في منتصفها مأخوذا، أنظر إلى الرفوف والكتب والكراتين المليئة بالمجلدات، ثم خرجت على الفور، لكنني في الأيام التالية ولسنوات، أدخلها وأقضي فيها الساعة والساعتين.. أقرأ وأقرأ. وهكذا نشأت محبا لهذا العالم، مفتونا بالأوراق والكتب، أذكر أني بقيت أعتاد تلك المكتبة لزمن، حتى تزوج أخي وغادر البيت، ونقل مكتبته معه. بعض الكتب أتذكر أماكنها، كيف فتحتها، بل مازالت بعض الصفحات تومض في رأسي وكأني للتو فتحتها اليوم. ذهبتْ تلك المكتبة لكن غرام الكتب وولعها لم ينطفئ يوما. كنت أتصيد كل ورقة أو كتاب يقع يدي عليه. ثم تحوّل مسار هذه القراءة، في مرحلة المراهقة بالثانوية، إلى الكتب الدينية والسياسية والفكرية، المؤدلجة بالطبع، ككل الذين اختلس حياتهم وعقولهم الحزبيون في أنشطة جماعات التوعية الإسلامية، ولم أخرج من ذلك الضيق إلى فسحة العالم إلا في المرحلة الجامعية. أذكر أني كنت مهووسا بالرياضيات، وحاولت الالتحاق بكلية التربية أيامها، لكن معدلي لم يشفع لي، فذهبت إلى دراسة اللغة العربية في جامعة الإمام حينها، كخيار لم أكن أميل إليه، لكن الاضطرار واللحاق بالأصدقاء دفعني إليها. وبعد تلك المكتبة الأولى في الطفولة، تلك العلامة، بما يقرب من عشرين، كنت يوما مع الصديق الثمين منصور النقيدان، وكان حينها يعمل في صحيفة "الوطن"، وكنا بإحدى الليالي نتجول بالسيارة في شوارع أبها، قال لي منصور: "ليش ما تجرب تكتب يا عبدالله؟". صمتّ قليلا ثم قلت: "سأجرب"، عدت إلى البيت وكتبت مقالا، كان عن غازي القصيبي، رحمه الله، "وبالمناسبة فرمضان هذا ذكرى وفاته الرابعة، طيّب الله مرقده"، ثم بعثت به إلى منصور، لأفاجأ به يهاتفني بعدها بيومين ويقول: إن مقالتك نُشرت بصفحة نقاشات في "الوطن". اشتريت نسخة من الصحيفة، وحين رأيت المقالة لمع في قلبي هذا المصير؛ الكتابة. بعد شهرين استكتبتني الصحيفة في صفحة الرأي، كان هذا في النصف الأول من عام ألفين، أي بعد صدور الجريدة بأقل من ستة أشهر، ومنذ ذلك الحين وأنا أكتب في هذه المطبوعة العزيزة على قلبي. وأظنني إلى جوار الصديق د. علي الموسى، أقدم كاتبين في "الوطن"، لم يغادراها لأي مكان. وأقول صدقا وبعد ثمانية مؤلفات أنجزتها، ما بين الشعر والرواية، إلا أن صحيفة "الوطن" كانت هي أول من قدمني للناس، سواء في الرأي الذي كتبت فيه حتى 2006 أو بزاويتي "حس" التي بدأتها 2007 وما زلت أكتب فيها حتى اليوم كل ثلاثاء. أقول هذا وأنا أتذكر شيئين، تلك المكتبة/ الإشارة في طفولتي، والشيء الآخر أنه لم يكن يخطر ببالي يوما أني سأكون كاتبا، لطالما تخيلت أني سأكون لاعب كرة قدم بأحد الأندية، وأوشك هذا أن يحدث لولا أني تهيبت أبي، أو مختصا في الرياضيات. هكذا لم تنبجس حلاوة هذا المصير في قلبي إلا ذلك اليوم الذي رأيت فيه أول مقالة بصفحة نقاشات، نعم لم أكن كاتبا عن عمد. كتبت بالصدفة، الصدفة التي ترجع إليها كلماتي كلها وقلبي.