كثيراً ما تلحّ عليّ صورةُ الشاعر الفنّان السعودي عبدالله العثمان، طافياً يعومُ في الضباب مصحوباً بالخفّةِ، والغموضِ حيث الملامح تنبئ ولا تنبئ وحيث القول يتقلّب في نيّاتٍ لا تبين بقدر ما تختزن حالةً تتموضع فيها الذات بطريقة يصعب تعيينها وترسيمها. لذّةُ التخفّي بين السطور وهناءة اللامبالاة تنهرق عليها؛ يضعان النصّ في مجرى المغامرة أو المتاهة عندما يكون اللعب أوّلَ الإبداع وأوسطه ومنتهاه. هي لُعبة تمارِس إغراءها وغوايتها، فلا ينفكّ العثمان عنها تجنِّح به المغامرة ويجنَح هو إلى ظلال وسهوب وهوامش يلقَى فيها أشباهه، ووحيده؛ قناعه وأناه المفقود يجلبه من كثافة البطء ومن تمهّل الذاكرة، ومن جُذاذات مشهدية لا تعمر الفراغ ولا تطلُب تسويته إلا بفراغ يتسعّرُ بشغوره وبتكرارية لا تَردِم بل تزيد من الحفر. كما هو الحال في كتابه الثاني "قد يحدث هذا الفراغ مرّتين" (نشر مشترك: نادي المنطقة الشرقية الأدبي ودار أثر للنشر والتوزيع، الدمام 2013) بغلافه المشغول شُغْلاً بلوحة للفنان والمصوّر لورنس دوميسون، إذ تبرز صورة وجه غُفْل سأفترض أنه وجه عبدالله العثمان نفسه الذي اختار هذه الصورة تحديداً لغلاف كتابه جرى إخلاؤه من هويّتِه وتفقيره من ملامحه فهو أقرب إلى جمجمة بثلاث حُفَر سوداء تأخذ مكان العينين والأنف فيما الرأس والفم يتطايران في البياض. هذا الوجه المجرود من هيئته والمتروك في فراغ تعميته وغُفْليّتِه والذي بات سطحاً أو قاعاً تنتثر عليه صورة واحدة صغيرة تتكاثر نحو 290 مرّة وتتعدّد هيئاتها؛ وجه بعينيْن مُغمضتين تطلاّن إلى الداخل تشربان من بئره الذي ينضح اليدين بغزارة انفعاليّة تضرب بمفارقة مع الصورة الكبيرة؛ نثارها وفراغها؛ الشَّطْب الذي لا يمتلئ؛ يبتلع إلى ما لا نهاية؛ يجدّدُ الحفرة ويلهو بين مسافاتها بخفة لا تعرف التوقّفَ. ينزلق من حالة إلى أخرى معجوناً "بالشارع والقلق" تأكل عينيه الدهشة عائشاً "الكآبة بانتباه.. ويزداد بها لطافة". هذا اللُّطف الأثيريّ الذي يضع الجسد في التحوّلِ يجول برشاقة ومرونة غير عابئ بالمرئيّ ولا بقوانينه. يشف ويعبُر وابتسامة هازئة لا تفارقه. يرى ويخلخل. يتصنَّع البلادة ولا يأبه بالأسماء ولا برصيدها، يسحب حصانتها ويطامِن من جديّتِها. ينزع الجهامة عنها فيدخلها في مداره؛ إلى نطاق جاذبيته. بعافية المرح ونداء اللعب، يشرع في تلغيم المشاريع ومعها العالم نفسه؛ ينزح بها إلى نزقه الميّال إلى الشَّغَب والتقليب والسخرية: "كان بوسعِنا إيقاف العالم على حرف السين أو جناح ذبابة، لكنّنا طوّرنا لحظتنا هذه وأبقينا العالم في متّسع من الحركة، إلى أن تنتهي أغنية طلال مدّاح "الله يرد خطاك" من أجل الأصدقاء في الرياض وتمايلهم وإلى أن يعودوا لكراسيهم حفاة". الخفّةُ الريّانةُ بالطرافة والمتدفّقةُ باللهو منذ عبارة الإهداء "إلى بندول نايت" وحتى آخر جملة في الكتاب عن حاجة الشاعر إلى "عطسة تبدّد غبار الرأس"؛ تؤكّد حضور جانب عبثيّ "الحياة لا تُؤخَذ بجديّة على سطح أصفر"؛ يدحر الأمل وبين يديه تفقد الجدوَى أنفاسها ويخفت الوقت مثل جلد ميّت على أطراف الأصابع. تتزكَّى اللامبالاة مجذوبة إلى دائرة الفراغ والاختفاء في العالم الافتراضي: "وأنا هنا في موقف تسلّل، وحيداً ومهتمّاً بالتحية التي تُلقَى دفعة واحدة في صفحتي الشخصيّة، وأني سأتّضح بعد يومين".