"60، 80، 100، زاد الله مِن زاد، 110، 150، أحد له شف، أحد له خاطر، الله يبارك له".. بهذه السمفونية الاقتصادية يفتتح "الدَّلال" أولى أغنياته الجميلة في الأسواق الشعبية التي تتطلب بيع حاجيات مختلفة، قديمة أو جديدة، وهو ما يسميه الناس "الحراج"، وعادة ما تباع في هذه الأسواق البضائع القديمة مثل السيارات، والأثاث، أو الخضروات الطازجة التي تجلب بكميات كبيرة مثل الحبحب، وغيره، وكذلك التمور. ويكون ل"الدلال" في هذه الأسواق الكلمة النهائية للبيع، فهو من يستخدم صوته، وحركات يديه، وتعابير وجهه للترويج للسلعة، ويأخذ على ذلك أجراً، بينما يجلب معه رزقاً للبائعين والمشترين على حدٍّ سواء. و"الدَّلال" قد يرث هذه المهنة من أبيه، أو يكتسبها من خلال تردده على الأسواق الشعبية منذ الصغر، أو يأخذها متأثرا بالمحيط الاجتماعي من الأصدقاء والأقارب من حوله، ولكن هذه المهنة في الوقت نفسه تتطلب نفساً أريحياً، وحنجرة تعرف طريقها في التعامل مع عدد الريالات المعروضة للشراء، والتي قد تكون أحياناً منخفضة، وفي أحيان أخرى بالملايين، وهذه الأخيرة تكون أكثر شيوعا في بيع العقارات والأراضي. ويؤثر "الدَّلال" أثناء الحراج على جمهور الملتفين من حوله، كالمطرب المغمور، فينجذب إليه المشترون كلما أحسوا منه ارتياحاً للبضاعة التي يُحرِّجُ عليها، فنبرة الصوت القوي الجاذبة تعطي انطباعاً بأن السلعة ذات جودة، مما يدفع المتحلقين للتفاعل معها، أما المتفرجون، فأحياناً يأخذهم الفضول، ويكتفون بسماع الصوت، والنغمات الموسيقية التي يرددها "الدَّلال"، فيتسمرون أمامه بأعينهم وآذانهم، ولايؤذيهم ذاك الصوت المرتفع، بل يعتبرونه موسيقى المكان، وإن كثر الضجيج، فلا صوت يعلو على صوته الرنان. وعادة ما يكون الدلال من ذوي الدخل المحدود، وليس لديه وظيفة، أو شهادة تعليمية متقدمة، ولا يتطلب دخول هذه المهنة أي شرط، أو شهادة، أو واسطة، بل صوتاً جهوراً واضحاً، ولغة جادة في جذب الآخرين بلمسات وقفشات غير خجولة، وأحياناً تكون إضافة النكات الخفيفة على السلعة كلمة السر، خصوصاً إذا كان المنتج المعروض للبيع "طيرا" فيقول "الدَّلال" مثلا إن هذه الببغاء تتحدث بثلاث لغات، أو إنها شاعرة، ليضيف الابتسامة على الحضور جميعاً، أما إذا كانت تمراً فوصفها بالذهب والدرر والمجوهرات المنثورة شيء لا بد منه. يقول الدلال "أبوعبدالرحمن" ل"الوطن" "إن هذه المهنة يتميز بها أشخاص لهم ارتباطات حميمة مع السوق وأهله، ولا تتفرد بها أسرة معينة أو تشتهر بها، بل هي رصيد علاقات تراكم مع الدلال عبر سنوات طويلة، وخبرة ودراية بالسوق، فلا يمكن لأي أحد أن يشتغل بهذه المهنة، فمثلا لن ينجح بها البعيد عن الجو العام، أو من يشوبه الخجل" مشيرا إلى أن الصوت العالي عنصر رئيس لنجاح الدلال، وحصوله على ثقة مجموعة من الباعة يفضلونه ويرتاحون له. وأضاف أن "المهنة لم يطرأ عليها تغير منذ عشرات السنين، أو تدخل التكنولوجيا فيها، باستثناء الميكروفون الذي يوصل الصوت لعدد كبير من المشترين، أو الحاضرين، وعادة ما تنحو المهنة منحى الفلكلور الشعبي في بعض تقاليدها وأهازيجها، ولكل منطقة كلمات يتميز الدلال بها، ولكن القاسم المشترك أن الحراج يبدأ بالصلاة على النبي، ويختتم بالدعاء بالبركة للبائع والمشتري. فيما اعتبر الدلال "أبوهاني" أن الدلالة مهنته الوحيدة التي يعتمد عليها -بعد الله- في إطعام عياله، فبعد عجزه عن العمل، وتقدمه في السن فضلها، لأنها لا تتطلب جهداً حركياً، أو عملاً شاقا. يقول إنه أخذ المهنة عندما كان يتردد مع أبيه على الأسواق الشعبية في واحة الأحساء كثيراً، ومرت السنون وكبر، ونظرا لأنه تميز بيقظة وحس اقتصاديين، اعتلى منصات الحراج في أكثر من سوق بالمنطقة. وعن مواصفات الممارس لهذه المهنة، يقول "أبوهاني" إن "هذه المهنة تتطلب صبراً ودراية بمزاج الطرفين -البائع والمشتري-، فأحياناً يكون "السوم" لا يناسب صاحب البضاعة، ولا يرغب في البيع، ويضيع صوتك هدراً، ولا تستلم مبلغك حتى تتم البيعة، وهناك نوعيات من الباعة لهم تصرفات غير سليمة، ونعرفهم بسيماهم، ولا تعجبهم القيمة الحقيقية لسلعتهم، وهذا يعكر مزاج "الدلاَّل"، وعليه في هذه الحالة أن يدخر بحات صوته لبضاعة أخرى"، مشيرا إلى أن من المضحك أنه يردد طوال اليوم أرقاماً ضخمة لا يمتلك منها شيئاً. وأوضح "علي" سر تعلقه بهذه المهنة، قائلا "تعلمت المهنة منذ أن جئت للسوق بائعاً للحمام الزاجل وأنواع الطيور الأخرى، إلى أن انتقلت إلى سوق الخضار و"الحراجات" الشعبية المتعددة، وهذا العمل هو الذي أظهرني لناسي ومجتمعي، ومن خلاله كسبت علاقات مع كثيرين، وأصبحت أحبهم ويحبونني، وتطورت علاقتي بهم إلى ما وراء حنجرة السوق". وأضاف أنه يتقاضى نسبة من المبلغ الذي يتم الاتفاق عليه مسبقاً، ويتراوح من 3% : 5%، يأخذها من المشتري بعد أن تتم البيعة المتعارف عليها. وأضاف: "المشترون يضعون ثقتهم في الدلال، باعتباره صاحب مهنة تتعلق بأخلاقيات الشراء والبيع الحلال، فلا مجال عندهم للظن في تواطئه مع أحد، أو الترويج لمصالح آخرين، لأنه يطعم أولاده من هذا المال، وهو مؤتمن عليه ومسؤول أمام الله تعالى عن إن حدث غش".