بقدوم شهر الخير مبارك للأمة الإسلامية شهرها الفضيل تتفرغ الشاشات العربية بدون استثناء لتقديم أطباق المسلسلات الشهية، وتتنافس في تقديم أفضل النجوم والمخرجين والسيناريوهات لجذب المشاهد العربي، وتلك حبكة مؤسسية إعلامية للقنوات لكسب المعلن ورفع نسب المشاهدة. وإن استقرأنا تلك المسلسلات نجد أن الدراما المصرية وحدها تقدمت بأكثر من 25 عملا دراميا، أشهرها "العراف" لعادل إمام، الذي يتناول التغيير السياسي عبر تاريخ مصر، وسردية المشهد المصري من ظروف اجتماعية واقتصادية ونفسية، والتعددية الفكرية وقراءة موضوعية للأحداث التي تمر بمصر من خلال سيناريوهات متنوعة ورؤى مختلفة. أما الدراما السورية، ورغم غيابها عن كبريات الشاشات الفضية، إلا أنها تقدمت بأكثر من 30 عملا دراميا، أشهرها "سنعود بعد قليل" لدريد لحام، وكان متموجا بين الهزلية الكوميدية والتاريخيةأ ولم يحاك الفترة السياسية التي تمر بها سورية الآن، وكأنما حالهم يقول "من يرسم الضحكة على الثغور؟". أما الدراما الخليجية المجتمعة فقدمت أكثر من 15 عملا دراميا، أشهرها "أبو الملايين" و"البيت بيت أبونا"، وكعادة المسلسلات الخليجية في استجداء الكوميديا أو تغليب الحزن والتراجيديا باحتراف فطري أو التهريج بشخصيات بهتت وسط عصر التكنولوجيا، المشاهد الخليجي لم يعد يرضيه ما كان يرضيه قديما. وفي غياب عدة مدارس درامية عربية أخرى قدمت الشاشة الفضية ما يقرب من 80 عملا دراميا، إن لم يسقط مني سهوا عمل ما، غير البرامج السريعة مثل "واي فاي" و"المصاقيل" وبرامج الكاميرات الخفية وبرامج الطبخ وبرامج المسابقات. يتنافس أكثر من 100 قناة عربية للنقل الحصري أو غير الحصري، تتصدرها القناة السعودية في وقت صلاة المغرب تحديدا، وتغيب عنه في المشهد الدرامي لهذه المسلسلات والبرامج. بمعنى آخر إن كان لجهاز الريموت صوت نسمعه فسيقول (ارحموني) وخصوصا لتنوع الآراء والميول في البيت الواحد بين الأب والأم وباقي الأسرة وسلطة الاستحواذ على ذلك الجهاز الثمين، هذا إن مرت عملية المشاهدة بسلام دون مشادات، وإن كانت هناك أجهزة تلفاز أخرى تحل المشكلة الثقافية الترفيهية الأسرية. وفي استقراء آخر فشلت الأعمال في تقديم كوميديا حقيقية ثرية كما دأبت في عادتها في رمضان وكانت السحابة الكبرى في الأعمال للمشهد السياسي والاجتماعي، وهذا بحد ذاته منعطف مهم في كتابة السيناريوهات العربية في ظل ما يشهده العالم العربي من تحولات سياسية، وأصبح المشاهد العربي أكثر تطلبا ووعيا فيما يشاهد، بل له حرية النقد فيما يلقى له من هذه القنوات من مختلف الأعمال. السؤال الأكبر: لماذا رمضان؟ في الوقت المتاح للصائم بعد الإفطار وهو قصير نسبيا في فصل الصيف، ووسط انشغالات عصر التسارع، خصوصا في هذا الشهر الفضيل الذي يفترض أن نشغله بالطاعات والتقرب لله تستميت القنوات العربية بتقديم هذه الوجبة الدسمة التي تسبب التخمة وعسر الهضم في اجتذاب المشاهدين بأمتع القصص وأدهشها، وحتى إن كساها الحزن والكآبة واستدرار النكد المتأصل في الدراما المحلية أو الخليجية تحديدا.. وحتى المشاهدون فجأة وبقدرة قادر يتحولون لنقاد فنيين ومخرجين ومصورين. رغم أن النقد الفني له قواعد وأسس إلا أن المشاهد له الحق أن يقبل أو يرفض قاعدة (الجمهور عايز كده). ورغم أحقية هذا المطلب لدى المشاهد إلا أن تساؤلي هو: لماذا لا تقدم هذه القنوات هذه الأعمال في غير رمضان؟؟ هل تحول رمضان لمتاجرة إعلامية؟ أم إن استغلال وقت تجمع العالم الإسلامي والعربي في وقت واحد يعد من المهمات المستحيلة عصريا؟! وتنجح هذه القنوات في جذب أعداد المشاهدين الكبيرة، ويكون الفائز هو المؤسسة الإعلامية من خلال المعلن والمشاهد. تخيل الوضع لو أغلقت هذه الأجهزة في هذا الشهر الفضيل أو قنن وقت إشغالها بعد الإفطار.. هل ستنجح هذه العادة الدرامية الرمضانية؟ ولماذا لا يوزع هذا الإنتاج الدرامي على مدار السنة، بدلا من حشره في ثلاثين يوما لا يتفرغ المشاهد المتفرغ إلا لمشاهدة خمسة أو ستة أعمال على الأكثر؟ الدراما هي صناعة بحد ذاتها، ولكن كعادة العرب يتم استغلال هذه الصناعة في إرباك المشاهد ثقافيا وترفيهيا، في غياب حماية للمشاهد العربي كمستهلك بالدرجة الأولى، وكان الأجدر توجيه هذه الموارد على مدة أطول لإتاحة الفرصة لرؤيتها والاستفادة منها فكريا وثقافيا، وكل ما يحدث لهذه الأعمال في رمضان هو الإهدار شبه التام، لأن العمل الدرامي بمجرد عرضه للمرة الأولى لا يعد مرغوبا إلا إن كان عملا متفوقا، وهذا موضوع آخر.. بالتالي فإن أغلب هذه الأعمال لا تعاد مشاهدتها إلا قليلا، وبالتالي تعد إهدارا ثقافيا وفنيا لا بد من مراجعته. بالنهاية: رحم الله الزمن الجميل الذي كان يتيح لنا وقتا للنوم ووقتا للعمل ووقتا للأسرة ووقتا للعبادة... (ويصير عندك وقت تتفرج).