طالعت صحيفة الوطن العدد 4628 وتاريخ 22 رجب 1434ه وأثناء مطالعتي استوقفني خبر بعنوان: (المفتي: لا تتعصبوا للعلماء، وتركهم واجب إن خالفوا "الحق") وعند قراءة تفاصيل الخبر فإذا سماحة مفتي عام المملكة ورئيس هيئة كبار العلماء الشيخ عبد العزيز آل الشيخ، يشدد على وجوب عدم التعصب للعلماء، ولاسيما إذا كان حديثهم يخالف الدليل، مشيرا إلى أن على المرء أن يقتدي بهم بالخير، فيما أكد وجوب ترك العالم إن ثبت أنه مخالف للحق. ثم قال: على المرء ألا يتعصب للعالم إن كان مخطئا في قوله ويجانب الحقيقة، وأكد على وجوب ترك العالم إن ثبت أنه يخالف الحق. هذا الخبر استوقفني كثيراً، وفكرت ملياً في مدلولاته، فإذا هو يشفي الصدور، وينير الطريق، ويزيل الشبهة، ويجعل القداسة للحق وحده، لا للأشخاص، ولا للمذاهب، ولا للأهواء، ولا للسياسة، ولا للعلماء والأئمة. الإنسان ينبغي أن يدور مع الحق حيث دار، يتبع الدليل الشرعي الصحيح، بغض النظر عن قائله، سواء اتفقنا معه أم اختلفنا، أحببناه أم كرهناه، المهم أن نعرف الرجال بالحق لا أن نعرف الحق بالرجال، بمعنى ما قال فلان فهو حق كلا. وفي الحقيقة أن سماحة الوالد المفتي – حفظه الله – بهذا الخطاب التنويري يذكرنا بالمنهج القرآني، إذ يقول تعالى: "اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ" (الأعراف3). ويذكرنا أيضاً بمنهج السلف الصالح، إذ كل من الأئمة الأربعة يؤكدون على اتباع الدليل وعدم تقديس الأشخاص والعلماء، وينهون عن التقليد الأعمى. فهذا الإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: (إذا قلت قولاً يخالف كتاب الله تعالى وخبر الرسول، صلى الله عليه وسلم، فاتركوا قولي). والإمام مالك بن أنس، رحمه الله، يقول: (إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه). ويقول: (ليس أحد بعد النبي، صلى الله عليه وسلم، إلا ويؤخذ من قوله ويترك). وأما الإمام الشافعي، رحمه الله، صاحب المقولة المشهورة: رأيي صح يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب، فحث كثيراً على الاتباع ونهى عن التقليد الأعمى. وخلاصة أقواله: اضربوا بكلامي عرض الحائط إذا خالف كلام رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم. فقال: (ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، وتعزب عنه. فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خلاف ما قلت فالقول ما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو قولي). وقال: (أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لم يحل له أن يدعها لقول أحد). وقال: (إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقولوا بسنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ودعوا ما قلت). وأما الإمام أحمد – رحمه الله - فهو أكثر الأئمة جمعاً للحديث وأكثرهم نهيا عن التقليد، وكان يقول لأحد تلاميذه: (لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا). هذا هو المنهج التنويري الذي يحرر العقول من التبعية العمياء.. التبعية المطلقة للعلماء، ويشعر الإنسان بكرامته البشرية، لأن الإنسان كرمه الله عن سائر المخلوقات بالعقل، وحث القرآن على استخدام العقل في التفكر والتدبر. والمنهج الآخر الذي يحث على التقليد الأعمى ويضفي القداسة على العلماء والمشايخ ويجعلهم فوق البشرية في طبقة عاجية، ولا يُسألون عما يفعلون، ولا يُخالف لهم رأي، ويحللون ويحرمون ولا يسألون عن الدليل، ويتخذون سياسة اتبعني ولا تسأل ..سلم عقلك..هذا المنهج الرجعي يفرق الأمة ويكرس الطائفية والفرقة.