حين خرج العرب من الأندلس، كانوا يحملون معهم إرثهم الثقافي الذي تمثله المخطوطات الأندلسية. بحثوا عن مأوى أكثر أماناً يحفظها من التلف والحرق، حينها شكلت (بلاد شنقيط) بموريتانيا مثلها مثل فاس بالمغرب وتمبكتو بمالي مركزاً ثقافياً احتضن هذه الثروة الحضارية، وأصبح من أهم منارات العلم والثقافة في غرب أفريقيا، مما ساعد في نشر الإسلام والثقافة العربية في أصقاع إفريقيا، فازدهر العلم بموريتانيا بفضل تلك المخطوطات، وأصبحت حواضرها مكانا لتجمع العلماء والباحثين ومركزا حضاريا وثقافيا ومنارة علمية ودينية، واستطاع الموريتانيون أن يبنوا حضارة المرابطين الزاهرة بفضل هذا الإشعاع الفكري. اليوم تزخر موريتانيا بمخطوطات نادرة بعضها استنسخها الموريتانيون وأخرى ألفها أشهر علمائهم المعروفين بسعة باعهم في العلوم الشرعية وفي اللغة والنحو والشعر والسيرة. ويعتبر رصيد موريتانيا من المخطوطات الأضخم في العالم العربي، لكنه الأقل انتشارا وشهرة، كما أنه لا يحظى بالاهتمام والعناية وتتهدده مخاطر كثيرة مثل التلف والحرق واستئثار بعض العائلات به. المخطوطات الأصلية والنادرة التي تحويها المكتبات التاريخية بموريتانيا تهتم بالفقه والتفسير والنحو والبلاغة والتاريخ والطب والعقيدة وغيرها وهي مخطوطات لأشهر علماء المسلمين على مر التاريخ مثل ابن كثير وأبو حامد الغزالي وجلال الدين السيوطي وغيرهم. وتغطي هذه المخطوطات التي يقدر الباحثون عددها بأكثر من 40 ألف مخطوطة فترة زمنية تمتد من القرن 3ه إلى القرن 14ه، ويوجد أغلبها في مكتبة مدينة شنقيط التاريخية ومكتبات العائلات المعروفة بمكانتها العلمية واهتمامها بالكتب والمخطوطات التراثية، بينما يحتفظ معهد المخطوطات في موريتانيا بما يزيد على ستة آلاف مخطوط. الباحث المهتم بالتراث والتاريخ الموريتاني يحيى ولد المحفوظ يقول ل"الوطن": إن آلاف المخطوطات النفيسة توجد في موريتانيا، فرصيد البلاد من هذه المخطوطات يعتبر دليلا على الدور الكبير الذي اضطلعت به في خدمة الثقافة العربية وحفظها ونشرها، بينما البعض يشكك في عروبتها ويرفض الاعتراف بمكانتها في المشهد الثقافي والتاريخي العربي. ويضيف: "الموريتانيون حافظوا على هذا الكنز الفريد من مخاطر التلف بقدر ما أتيح لهم من إمكانيات لأنهم يدركون قيمته، كما أن هذه المخطوطات دليل على أن الحياة الإبداعية في بلدهم كانت مزدهرة، فحرص الموريتانيون على الاحتفاظ بهذه الثروة لتفنيد النظرة المتشائمة إليهم، وللتأكيد أن بلدهم كانت رحما ولودا للعلم والإبداع ولولا الحروب وعدم الاستقرار والظروف الحياتية القاسية في الصحراء لوصلوا إلى أبعد من ذلك بكثير... كما أن هذه المخطوطات فندت نظرية ابن خلدون المعروفة والقائلة بأن الثقافة هي سليلة العمران، فقد استطاع الموريتانيون وهم أبناء حل وترحال أن يشكلوا معاقل ثقافية مهمة حج إليها أشهر العلماء، وأهدوا الباحثين عن العلم آلاف المخطوطات النادرة التي تؤكد رسوخ قدم المحتفظين بها والمحافظين عليها في الثقافة والعلوم". أسر المكتبات العائلية يشير ولد المحفوظ إلى أن الكثير من هذه المخطوطات لا يزال أسير المكتبات العائلية، مثل مكتبة "وادان" لعائلة أديدين ومكتبة "القاضي" لعائلة حيدرة التي تضم كمية كبيرة من المخطوطات الأندلسية التي وصلت إلى 7026، ومكتبة "الحبت" التراثية بشنقيط التي تضم 1400 مخطوطة من مختلف فنون العلم والمعرفة كعلوم القرآن، والحديث والنحو والسيرة واللغة والحساب والأدب وعلم الفلك والطب. وأثنى الباحث على دور العائلات في تجميع المخطوطات والعناية بها، وأكد أن هذه المكتبات تفتح أبوابها للدارسين والباحثين والمترجمين والزوار ودور النشر والطباعة للاستفادة من هذا الكنز العلمي، ويمكن للباحث أن يزور هذه المكتبة ويحصل على الصورة التي يريد لإحدى المخطوطات". ودعا ولد المحفوظ الباحثين العرب إلى زيارة موريتانيا لاكتشاف أحد أهم منابر العلم والتراث في المغرب العربي وإفريقيا والاستفادة من آلاف المخطوطات النفيسة. بينما يرى محمدو ولد الجدين (مهتم بالمخطوطات والكتب التراثية) أن احتفاظ الكثير من العائلات بمخطوطات نادرة وقيمة يقلص فرص الاستفادة منها مقارنة بما يمكن أن يحصل عليه الباحث إن تم تجميع هذه المخطوطات وتصويرها وتوزيع نسخها على المراكز الثقافية ومعاهد المخطوطات، مع العلم أن عملية تصوير المخطوطات لا تلحق أي ضرر بالمخطوط ولا تنتقص من قيمته شيئا". وأكد أن المخطوطات واحدة من دعائم الثقافة الموريتانية وثروة مهمة يفخر بها الموريتانيون، لكن ذلك لا يمنع الدولة من القيام بواجبها لاسترداد المخطوطات واطلاع الرأي العام على هذه المدخرات المغمورة والمبثوثة في كثير من زوايا البيوت، وتمكين الباحثين والمهتمين بهذه المدخرات ذات القيمة التاريخية والعلمية والحضارية من الاستفادة منها. وحذر الباحث من التهاون في مسألة الحفاظ على المخطوطات، وأكد أن جميع المخطوطات التي تحتفظ بها المكتبات العائلية مهددة بالتلف والحرق، حيث إن وسائل المحافظة عليها محدودة وتقتصر على مكافحة الحشرات وتأمين الجو المناسب لتبقى أطول فترة ممكنة. ويقوم المعهد الموريتاني للبحث العلمي حاليا بجمع وتصنيف وترميم المخطوطات التي تزخر بها مدن يتهددها خطر الاندثار تحت الرمال، وقد تم حفظ 3500 مخطوطة بتصويرها والإشراف مستمر على تعقيمها وترميم المخطوطات الآيلة للتمزق.