"البوذيون يكرهونني وطردوني منذ أن اعتنقت الإسلام"، هكذا يبدأ الراهب البوذي روهين ملا الذي اعتنق الإسلام لينضم إلى الأقلية المسلمة في ميانمار، في رواية قصته لبعض الصحف الأميركية التي أبدت اهتماما ب"التطهير العرقي" الذي يتعرض له المسلمون الذين يعرفون ب"الروهينجا"، في هذا البلد الآسيوي. ويقول ملا إن والديه أيضا نبذاه ورفضا الرد على اتصالاته المتكررة منذ تزوج بفتاة مسلمة قبل 10 سنوات. ويضيف: "عندما أخبرتهما في المرة الأولى بقراري ظلت والدتي تسألني على مدى 3 أيام لماذا سأتحول إلى الإسلام؟ وقلت لها إنني لا أحب البوذية ولا أعتقد أنها الدين الصحيح". ويصف ملا المصاعب التي تعرض لها في ما بعد بقوله: "ظل كثير من البوذيين يتربصون بي ويتحينون الفرص للانتقام مني، لذلك لم يصدقوا أنفسهم عندما تفجر العنف الطائفي فبادروا إلى مهاجمة منزلي وإحراقه وتدمير محتوياته. كما لم يكتفوا بذلك بل ظلوا يبحثون عني لقتلي وإحراقي مع أبنائي وزوجتي، لكن الله كتب لنا النجاة". وهذا الوضع المأساوي ليس حصرا على ملا فقط، ولكنه حال مئات الآلاف من أقلية الروهينجا المسلمة في ميانمار الذين باتوا يفترشون الأرض ويلتحفون السماء بعد أن أحرق البوذيون منازلهم. "كالا" والهوية وعلى ذات النسق، يتحدث سو مان وهو أحد المسلمين الذين صودرت أملاكهم قائلا: "البوذيون قرروا إخراجنا من بلادنا ويقولون للآخرين إننا دخلاء على بلادهم، ويسموننا "كالا" التي تعني الغريب أو المهاجر غير الشرعي. نحن أقلية محدودة لذا لا يخشى أحد جانبنا، وعندما نتقدم بشكاوى للسلطات الرسمية يطلبون منا أن نتعايش معهم، مع إننا نخشى حتى الاقتراب منهم، لأنهم عدوانيون لا يردعم دين وليس لهم وازع من أخلاق ويحبون الخصام ولا يتورعون عن قتل من يغضبهم لأبسط الأسباب". وتؤكد وثائق رسمية أميركية، أن أقلية الروهينجا التي يقدر عدد أفرادها بنحو مليون نسمة ويتركزون بصورة خاصة في ولاية أركان، هم من سكان البلاد الأصليين على الرغم من أن الحكومات المتعاقبة على ميانمار دأبت على إنكار وضعهم كجماعة عرقية، وصنفتهم كمهاجرين من بنجلاديش. بلا وطن ويرجع السر في موقفهم كمواطنين بلا وطن، إلى القانون المدني الذي أقرته ميانمار 1982، والذي اعترف بحوالي 135 أقلية عرقية في البلاد استثنيت منها عرقية الروهينجا. ونص القانون على أن ذوي الأصول الهندية أو الصينية ممن لا يستطيعون إثبات نسبهم ما قبل فترة الاستعمار 1824 - 1948 لا يتمتعون بحقوق المواطنة. لذلك ظلوا على هامش النسيان ولم ينتبه العالم إلى مأساتهم، ولم يسمع بهم كثيرون حتى تفجرت قضيتهم مؤخرا نشبت اشتباكات بينهم وبين البوذيين أسفرت عن مقتل 89 شخصا ونزوح 90 ألفا آخرين. وأثارت أعمال العنف الطائفي تلك، موجة من الاستهجان الدولي، للبلد حديث العهد بالديموقراطية، خاصة من جانب الدول المسلمة. وزادت حالة الغضب الدولي بعد أن أبلغ الرئيس ثين سين المفوضية السامية لشؤون اللاجئين بالأممالمتحدة العام الماضي أنه ينبغي على المنظمة الدولية أن تسعى لإعادة توطين أقلية الروهينجا في موقع آخر خارج ميانمار أو تضعهم في مخيمات، إلا أنه تراجع بعد أيام من ذلك التصريح عقب تصاعد الإدانة والغضب الدوليين، وأعلن عن تشكيل لجنة تضم نشطاء حقوقيين وجماعات مدنية وقادة دينيين للوصول إلى حلول طويلة المدى. تهجير بالجملة وكانت منظمات دولية عالمية قد لفتت انتباه العالم إلى ما يجري في ذلك البلد الآسيوي الذي ظل منغلقا على نفسه لعدة عقود، مشيرة إلى أن الروهينجا وجدوا أنفسهم في موقف لا يحسدون عليه، حيث تقول سلطات ميانمار إنهم ليسوا من مواطنيها، وإنهم نزحوا إليها من بنجلاديش المجاورة. وفي الوقت ذاته تؤكد دكا أنهم ليسوا من مواطنيها وأغلقت حدودها في وجوههم، وبذلك وجدوا أنفسهم ونساءهم وأطفالهم في العراء، بعد إحراق منازلهم. وفي هذا الصدد أكدت منظمة "هيومن رايتس ووتش" في تقرير سابق لها قيام سلطات ميانمار بحملة تطهير عرقي ضد أفراد الروهينجا الذين يقيمون في ولاية راخين غربي البلاد. وأن هذه الحملة التي بدأت العام الماضي أسفرت عن مقتل حوالي 200 شخص وتهجير 140 ألفا آخرين. غضب عالمي ويلقي كياو ين هلينج أستاذ تاريخ سابق بجامعة "سيتي" بهونج كونج ومدير منظمة "ميانمار إيجريس" وهي الجمعية المدنية المنوط بها تشكيل اللجنة، باللائمة في مأساة الروهينجا على عاتق الحكومة والمؤسسة الدينية في ميانمار. ويقول هلينج "عندما تتأصل الكراهية في عقول الناس، تحتاج إلى وقت طويل كي تمحى". ويضيف: "التمييز ضد الروهينجا ليس نتيجة سلبية لسياسة الحكومة فحسب، لكنه نتاج أيضا لحملات نظمتها الجماعات البوذية عبر العقود الخمسة الماضية. ومن جهته يرى الباحث في شؤون الأقليات بمعهد السلام الأميركي جون ماكفاي في حديث إلى "الوطن"، أن الرد العالمي على ما يتعرض له شعب الروهينجا "اقل بكثير من سقف المعايير الدولية الواجب تطبيقها في مثل هذه الحالات". وحذر من أن يؤدي التباطؤ في التعامل بمهنية مع هذه الأزمة إلى ما لا تحمد عقباه كما حدث في رواندا في تسعينات القرن الماضي". دمار ونزوح لم تخفت حدة الغضب الدولي على ممارسات البوذيين العنصرية، ووجهت منظمة هيومن رايتس ووتش انتقادات لاذعة إلى سلطات ميانمار ودعتها إلى إيقاف هذه المأساة وحماية مسلمي الروهينجا الذين قالت تعرضوا لهجمات وحشية. وأكدت المنظمة في بيان إن أكثر من 811 مبنى ومنزلا قد سويت بالأرض في بلدة كياوكبيو بولاية أراكان، مما أجبر ساكنيها المسلمين على النزوح شمالا بطريق البحر إلى مدينة سيتوي عاصمة الولاية. وكشفت أنها حصلت على صور بالأقمار الاصطناعية تظهر "دمارا شبه تام" لجزء تقطنه أغلبية مسلمة من كياوكبيو. وقال نائب مدير المنظمة لشؤون آسيا فيل روبرتسون إنه يتعين على الحكومة "سرعة توفير الأمن للروهينجا في ولاية أراكان". كما أدانت الأممالمتحدة على لسان أمينها العام بان كي مون ما يتعرض له مسلمو تلك البلاد من مآس، وصفها في بيان بأنها "بشعة جدا". وأضاف "النسيج الاجتماعي في ميانمار يمكن أن يصاب بضرر دائم، كما أن الإصلاح والانفتاح اللذين تنتهجهما الحكومة حاليا تتعرض على الأرجح لخطر الانهيار". نقاء عرقي ويفسر الناشط في مجال حقوق الإنسان ومناهضة الحروب الدكتور حبيب صديقي، سبب الكراهية الشديدة التي يكنها البوذيون للروهينجا بأنها ترجع إلى فكرة خاطئة مفادها أن ميانمار إذا أرادت أن ترتقي سلم المجد فعليها أن تسعى إليه عبر النقاء العرقي وليس التعددية. ويضيف: "الزعامة البوذية في ولاية أراكان منبهرة بالنموذج الياباني الذي ينزع إلى الانكفاء العرقي على الذات وعدم الاختلاط بمن يحسبهم دونه منزلة. ولذلك فهي تريد إقامة دولة أحادية العِرق وخالية من أي طائفة اثنية أو دينية أخرى". ويبدو أن الموقف الرسمي في ميانمار من هذه القضية يجد إجماعا وطنيا من الأكثرية. حتى زعيمة المعارضة رئيسة حزب "الرابطة الوطنية من أجل الديموقراطية" سان سو تشي، الحائزة على جائزة نوبل للسلام آثرت الصمت، وهي التي ظل الإعلام الغربي يروج لها على أنها المنافحة عن حقوق الإنسان. إلا أنها لم تحرك ساكنا عندما تعلق الأمر بالمسلمين، وهي التي عانت من بطش العسكر الذين زجوا بها في السجون لأكثر من 15 عاما. وقالت في تصريحات صحفية "هناك خلافات حول ما إذا كانوا مواطنين حقيقيين بموجب القانون أو وصلوا كمهاجرين من بنجلاديش. ومعظم الناس يعتقدون أن هناك بلدا واحدا فقط مرتبطا بهذه المشكلة. ولكن الحقيقة هي أن هناك بلدانا، وأمن الحدود من مسؤولية البلدين بلا شك". حماية قانونية وقال الخبير في القانون الدولي بمعهد بروكنجز بواشنطن جيفري هاو في حديث ل"الوطن" إن قضية شعب الروهينجا تحتاج إلى حزمة معالجات قانونية وإنسانية تراعي وجود هذه الأقلية في محيط يختلف عنها ثقافة. وقال إن توفير الحماية القانونية لهذه الجماعة هو أمر تكفله مبادئ القانوني الدولي ومن ثم يجب تنهض المنظمات الحقيقية الأممية وغير الحكومية بدورها في هذا الخصوص. من جانبها، أعلنت المنظمات الإسلامية غير الحكومية بدول الآسيان في مؤتمر عقد في العاصمة الماليزية كوالالمبور في أغسطس من العام الماضي عن البدء بتشكيل ائتلاف جديد لمؤسسات ومنظمات إسلامية غير حكومية يهدف لنصرة الروهينجا وبحث معالجة مشاكلها وإنهاء معاناتها. دعم سعودي وتجاوبا مع الظروف الصعبة التي يواجهها الروهينجا، قدم خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز تبرعا سخيا بمبلغ مليون دولار لتوفير الاحتياجات الإنسانية للاجئين الذين فقدوا منازلهم وممتلكاتهم، وقد لقيت هذه اللفتة الإنسانية تقديرا واسعا وسط منظمات الإغاثة العالمية. ونتيجة لتصاعد الغضب العالمي على مأساة الروهينجا قام وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو بزيارة إلى ميانمار على رأس وفد ضم زوجة رئيس الوزراء رجب طيب إردوغان التي لم تتوقف عن البكاء بعد أن رأت بعينيها مأساة المسلمين هناك وكيف يتعرضون لاضطهاد شديد منذ أشهر على أيدي البوذيين. كما تفاعل أوغلو مع أحد الشباب الذي جلس باكيا وقام باحتضانه، وهو ما أثار موجة بكاء لدى الحاضرين. كما قامت منظمة التعاون الإسلامي بتنظيم حملات إغاثة على نطاق واسع. اهتمام عالمي وتمثل أبرز الاهتمام العالمي بهذه القضية في الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس الأميركي باراك أوباما إلي ميانمار في التاسع عشر من نوفمبر من العام الماضي، وأصرت الإدارة الأميركية على الزيارة رغم انتقادات جماعات حقوقية بسبب الاضطهاد الذي تعاني منه أقلية الروهينجا المسلمة هناك. والتقى أوباما بنظيره ثين سين ومع زعيمة المعارضة أونج سان سو تشي التي قادت النضال ضد الحكم العسكري. وحثهما على إيقاف حملات التطهير العرقي والاستمرار في سياسة الإصلاحات السياسية. وبسبب الضغط الإعلامي وافقت حكومة ميانمار على دخول منظمات الإغاثة إلى داخل أراضيها لتقديم العون اللازم للنازحين. واستقبل رئيسها وفد المنظمات الإنسانية التابعة لمنظمة التعاون الإسلامي الذي ترأسه نائب رئيس جمهورية إندونيسيا السابق والرئيس الحالي للصليب الأحمر الإندونيسي يوسف كالا والأمين العام المساعد لمنظمة التعاون السفير عطا المنان بخيت. ضغوط دولية بالأمس القريب قام رئيس ميانمار ثين سين بزيارة الولاياتالمتحدة، وقد مثلت هذه الزيارة فرصة ثمينة للمسؤولين الأميركيين لإبلاغه ضرورة وقف العنف الذي يمارسه البوذيون على أقلية الروهينجا ببلاده، ووضع حد لمأساتهم الإنسانية التي وصفتها الأممالمتحدة بأنها إحدى أكثر المآسي بشاعة في العالم. وانتهز الرئيس الأميركي باراك أوباما، فرصة الزيارة التي تعد الأولى لرئيس من ذلك البلد إلى واشنطن منذ 50 عاما، ودعاه إلى اتخاذ خطوات لوقف أعمال العنف، كما كرر دعمه للإصلاحات في هذا البلد. وأعرب أوباما لضيفه عن "قلقه العميق حيال أعمال العنف الطائفية التي استهدفت مجموعات مسلمة في ميانمار"، وقال "يجب أن يتوقف نزوح السكان، والعنف الذي يستهدفهم". واستدرك بالإشادة بما يبذله سين في هذا الصدد. ومع أن رئيس ميانمار نفى أن يكون سبب الاضطرابات التي تشهدها ولاية راخين هو الصراع الاثني واتهم عدة جهات خارجية بمحاولة تشويه بلاده، إلا أنه استدرك بأن بلاده بحاجة فعلية إلى مزيد من الإصلاحات الديموقراطية، وقال في تصريحات نقلتها صحيفة "واشنطن بوست" "لتتطور الديموقراطية في بلادنا علينا أن نمضي قدما، وأن نقوم بإصلاحات سياسية واقتصادية". وتعهد سين بالإفراج عن المزيد من السجناء السياسيين، وإصلاح المؤسسات السياسية، وحل الصراعات العرقية من خلال إشراك كل الطوائف في العملية السياسية. ولم تخل الزيارة من مجاملة دبلوماسية، حيث حرص الرئيس الأميركي في تعليقاته للصحفيين على استخدام اسم "ميانمار" وليس "بورما" كما دأب الرؤساء الأميركيون السابقون الذين رفضوا الاسم الجديد الذي استحدثه القادة العسكريون خلال ثمانينات القرن الماضي. إلا أن المتحدث باسم البيت الأبيض جاي كارني استخدم الاسمين معا، ويبدو أنه أراد توجيه رسالة للرئيس الضيف مفادها أن عليه إنجاز الكثير حتى يحظى بالدعم الكامل.