فتنتنا ووقعنا بحبها، قامت حروب لأجلها، والغريب في الأمر أننا لم نعرفها، ولا نعرف مطالبها، وعندما سألنا عنها جاءتنا أجوبة متفاوتة المعنى. فما هي الديموقراطية؟ أربعة أصدقاء من بينهم سلام كانوا يستمتعون بوجبة في أحد المطاعم، على نغمات موسيقية جميلة ومنخفضة. وفجأة اختلطت نغمات الموسيقى بصوت مرتفع وحاد في نبرته من رجل يطالب النادل بإيقاف الموسيقى، نفَّذ النادل طلب الرجل! قال أحد الأصدقاء: "كيف يجرؤ أحدٌ على أن يفرض رأيه في مكان عام غير آبه بأحد؟"، قال الآخر: "لأنه يعرف أن ليس هناك أحد يمنعه"، قال ثالثهم: "من أين أتى هؤلاء؟ وماذا يريدون يا ترى؟"، قال الأول: "يريدون أن تُمسح الديموقراطية من عقول أبناء هذا البلد"، فقال سلام: "وما هي الديموقراطية؟" فأجابه الأول: "هل هناك أحدٌ لا يعرف الديموقراطية؟!"، فرد سلام: "إن لكل مجتمع تفسيره في ذلك، حتى لو أخذنا الأفراد سنجد أن لكل واحدٍ تفسيراً مختلفاً عن الآخر، دعونا نحدد ما نتكلم عنه حتى تصبح لدينا أرضية موحدة، وأول سؤال يجب أن يطرح هو هل الديموقراطية غاية أم وسيلة؟"، فقالوا لسلام: "أنت أجب على هذا السؤال"، فقال سلام: "إن كثيراً من الناس يعتبرها غاية وهنا يقع الإشكال، حيث يتحول المجتمع إلى أحزاب لكسب أكثر شيء ممكن من المتاح إليهم، فنجد تجريح حزب لحزب، ونرى صورة عصرية للقبلية التي أنقذنا الإسلام منها"، فقال أحدهم: "يعني ذلك أنك يا سلام لست من المؤيدين للديموقراطية...."، قاطعه سلام: "أنا كذلك إذا أُخذَت على أنها غاية، أما إذا أُخِذت على أنها وسيلة فأنا من مؤيديها"، فقال الآخر "وما الفرق بينهما؟" قال سلام: "واحدة منهما هدامة والأخرى قوّامة، أي بمعنى آخر (الغاية) تُعيدُنا للقبلية و(الوسيلة) تقودنا للمدنية"، قال أحد رفاقه: "ديموقراطية تعيدنا للقبلية!"، رد عليه سلام: "نعم حيث إن المنفعة الشخصية هي المحرك في ديموقراطية الغاية، أما إذا أُخذت على أنها وسيلة فهنا يبدأ بناء المجتمع المدني ومؤسساته لغاية سامية وهي العدل، وهاهي دول الربيع العربي مثال حي على ركوب عربة الديموقراطية كغاية، إن سمة الديموقراطية مؤسساتها التي سوف تفرض العدل على المجتمع عامةً، فلا تجد حزباً يجبر حزباً آخر على رأيه لأن ذلك إخلال بالغاية وهي العدل". واصل الأصدقاء تناول عشائهم قبل قول أحدهم:"هل لك أن تُطبِّق ما قلته وبصورة مبسطة على مجتمعنا السعودي"، فقال سلام: "إنكم تعلمون أن ديموغرافية مجتمعنا مكونة من مجتمعين، الأول قبلي ويمثل النسبة الأكثر من سكان المملكة، والمتبقي هم سكان المدن والحواضر، تخيلوا شكل الديموقراطية كغاية، وما سوف يكون من تحزب وإدخال خصائص الجاهلية التي نبذها الإسلام، سنجد أن قوى التملك والتأثير هي الدافع الرئيس، وتخيل بعد ذلك ما سيؤول إليه المجتمع من تمزق وعدوانية. أما العمل بالديموقراطية كوسيلة، فهي بداية البناء لمجتمع مدني وجهته الوصول إلى العدل، ومن مقومات العدل التساوي بين أفراد المجتمع، والحفاظ على حقوقهم وتملكهم حق القول في الإصلاح، وذلك بتقسيم المجتمع إلى فئات مهنية لمحو القبلية، بانتماء كل فرد إلى جهة تخصصه ومهنته، وعلى ذلك يُبنى تطوير المجتمع على أساس الإنتاجية والحرية الإيجابية"، قال أحدهم: "وكيف يكون ذلك؟"، رد سلام: "لن نتمكن من ذلك إذا لم تأت من السلطات العليا، حيث لذلك معايير وحدود، ويجب أن نفرَّق بين من يريد الإصلاح المبني على العدل، ومن يستغل الإصلاح لمكاسب شخصية، فالمُطالِب بشيء لا يعني أنه طالب له. فنحن نرى الناس في وقتنا الحاضر ينادون بالإصلاحات وإذا تعمقت فيما يريدون رأيت الوجه الآخر المبني على الكسب الذاتي. وعلى المجتمع عامة التكاتف ونبذ الشواذ أحاديي الأفكار إذا هم أرادوا تعطيل ديموقراطية العدل، وتقبلهم إذا رجعوا لصوابهم من غير مضاضة". نبه أحدهم بأن الطعام قد برد! ابتسم الجميع وباشروا بالأكل على صوت الملاعق بعدما أُقفِلت نغمات الموسيقى، وبقيت نغمات التفكير تقول (لكل شيء خطوته الأولى، والخطوة الأولى للمجتمع الذي يريد الوصول إلى العدل هي إثبات الحقوق لأفراده، وقتل البيروقراطية الهدامة).