أدى الازدياد المذهل في شعبية الحزب «الديموقراطي الليبرالي» وزعيمه نك كليغ في الفترة التي تسبق إجراء الانتخابات البريطانية العامة في 6 أيار (مايو) الجاري إلى بروز إحدى أكثر الحملات الانتخابية إثارةً وتشويقاً التي لم تشهد لها بريطانيا مثيلاً منذ سنوات. فحتى منتصف شهر نيسان (أبريل)، تراوحت نسبة الدعم للحزب «الديموقراطي الليبرالي» بين 18 و20 في المئة، علماً أن هذا الحزب يبعد من حزب «العمّال» بفارق عشر نقاط مئوية. وكان حزب «المحافظين» متقدّماً على حزب «العمّال» بنسبة تراوحت بين خمس إلى ست نقاط مئوية بعدما بلغت هذه النسبة 20 في المئة في منتصف العام 2008. إلا أنّ هذا المشهد تغيّر في شكل كبير منذ مساء 15 نيسان، وذلك بعد حصول أول مناظرة من نوعها بين زعماء الأحزاب المتنافسة على انتخابات بريطانيا العامة. وشكّل أداء كليغ مفاجأة كبيرة للجميع فتفوّق على ديفيد كاميرون وغوردن براون في المناظرة التي دامت تسعين دقيقة. إثر ذلك، ارتفع التأييد للحزب «الديموقراطي الليبرالي» بنسبة فاقت عشر نقاط مئوية، علماً أنّ ذلك لم يكن مجرّد فقاعة موقتة. فعلى مرّ الأسابيع التالية، أشارت معظم استطلاعات الرأي إلى احتلال الحزب المرتبة الثانية بعد حزب «المحافظين»، فتراجع حزب «العمّال» إلى المرتبة الثالثة، مع العلم أنّ الفارق بين الأحزاب الثلاثة لا يتعدى خمس نقاط. وكان زعيم حزب «المحافظين» ديفيد كاميرون يُعتبر زعيماً شاباً يعد بالتغيير. لكن بعد انتهاء المناظرة، بدا كليغ الذي يبلغ على غرار كاميرون ثلاثة وأربعين عاماً قادراً على تقديم نطاق أوسع من التغيير والأمل. وتوجّه كليغ إلى المشاهدين خلال المناظرة الأولى بالقول: «لا تسمحوا لهم بأن يقنعوكم بأنّه ينبغي عليكم الاختيار بين الحزبين القديمين فحسب» اللذين حكما بريطانيا على مدى خمسة وستين عاماً و «قطعا لكم الوعود القديمة نفسها ومن ثمّ أخلّا بها». يُعزى سبب ارتفاع شعبية كليغ إلى خيبة أمل الشعب من الحزبين الأساسيين وعدم ثقته بهما. فقد أدى اجتياح العراق الذي لقي دعم حزب «المحافظين» ومعارضة الحزب «الديموقراطي الليبرالي» إلى تقويض الثقة بالحكومة. كما تسبّبت الفضائح في شأن مصاريف النواب الضخمة خلال السنة الماضية بخيبة أمل الشعب بالسياسيين. تُعتبر الأزمة المالية بمثابة غيمة سوداء تخيّم فوق الحملة الانتخابية. ويعرف الجميع أنه أياً يكن الحزب الذي سيصل إلى السلطة، سيتمّ فرض تخفيضات كبيرة في الإنفاق العام بسبب دين بريطانيا العام المقلق والبالغ 167 بليون جنيه إسترليني. ويخشى البعض من أن يؤثر هذا الأمر في الخدمات العامة ونظام الرعاية. وأخفق حزب «المحافظين» في أن يكون بديلاً جيداً عن حزب «العمّال» كما لم تنجح رؤية «المجتمع الكبير» التي اقترحها الحزب في بيانه الانتخابي في تأجيج حماسة الشعب. ومن المرجح نشوء «برلمان معلّق» لا يحظى أيّ حزب فيه بالأكثرية المطلقة. ويترتّب على زعماء الأحزاب الثلاثة الأساسية اتخاذ قرارات صعبة في شأن كيفية التعامل مع هذا الأمر. ينبغي على كليغ أن يقرّر ما إذا كان سيدعم حزب «العمّال» أو حزب «المحافظين». ولا شكّ في أنّ حزب «العمّال» هو شريكه الطبيعي، لا سيما أنّ الناخبين التقدّميين قد يشعرون بالذعر لفكرة أن يسمح الإدلاء بأصواتهم لمصلحة كليغ بوصول حكومة محافظة كما يحذّر حزب «العمّال». ولا يعرف كليغ بعد كيف يجب أن يتصرّف في حال احتل حزب «العمّال» المرتبة الثالثة في تصويت الشعب وفاز بمعظم المقاعد في البرلمان. أما في حال كانت حصة الحزب «الديموقراطي الليبرالي» كبيرة بالقدر الذي تشير إليه استطلاعات الرأي، فقد ينعكس ذلك على عملية إصلاح النظام الانتخابي في بريطانيا. يقوم النظام على إعطاء «الحزب الفائز مقاعد أكثر من حصته النسبية من الأصوات» عوضاً عن اعتماد التمثيل النسبي كما معظم البلدان. ويرى البعض أنّ هذا النظام غير عادل. وأشار استطلاع للرأي نشرته مؤسسة «كومريس» في صحيفة «إندبندنت» وعلى قناة «آي تي في» في 27 نيسان إلى أن حزب «المحافظين» حاز 32 في المئة من الأصوات فيما حصل كلّ من الحزب «الديموقراطي الليبرالي» على 31 في المئة وحزب «العمّال» على 28 في المئة. لكن قد يحظى حزب «العمّال» بالعدد الأكبر من المقاعد في مجلس العموم (268 مقعداً) على رغم احتلاله المرتبة الثالثة. وقد يفوز حزب «المحافظين» ب 238 مقعداً والحزب «الديموقراطي الليبرالي» ب 112 مقعداً فقط. وأعلن كليغ أنه «مستعد للعمل مع أي شخص كان إذا تمّ إصلاح النظام الانتخابي»، مضيفاً أن «الإصلاح الانتخابي هو شرط أساسي يسبق أي تجديد سياسي في هذا البلد». إلا أنّ كاميرون لفت إلى أنه يرفض التمثيل النسبي. ومنذ أسابيع، اقترح غوردن براون إجراء إصلاح محدود يقوم على التصويت البديل المعتمد في النظام الأسترالي. وحذّر كلّ من حزب «المحافظين» وحزب «العمّال» من خطر التصويت للحزب «الديموقراطي الليبرالي». وقال اللورد بيتر ماندلسون عضو حزب «العمّال»: «اعبث مع كليغ وأقترن بكاميرون». يعتبر ديفيد كاميرون أن التصويت لمصلحة الحزب «الديموقراطي الليبرالي» قد يمدد ولاية غوردن براون «خمس سنوات إضافية». وحذّر براون وحزب «المحافظين» من مخاطر نشوء برلمان معلّق. وكان كاميرون يحاول إقناع مؤيدي الحزب «الديموقراطي الليبرالي» بأنّ حزب «المحافظين» يعتمد مقاربة ليبرالية حيال سياسته المتعلقة بتغيّر المناخ والحريات المدنية ومنح السلطة للشعب. يملك الحزب «الديموقراطي الليبرالي» جذوراً تاريخية قديمة. وقد تأسس عام 1988 جرّاء اندماج الحزب «الليبرالي» بالحزب «الديموقراطي الاجتماعي». وتأسس الحزب «الديموقراطي الاجتماعي» عام 1981 على يد مجموعة مؤلفة من أربعة رجال سياسيين بارزين من حزب «العمّال» بمن فيهم البارونة شيرلي ويليامز واللورد ديفيد أوين اللذان رحلا عن حزب «العمّال» بعدما شعرا بأنه يميل نحو اليسار وبأنّ التروتسكيين بدأوا يخرقون صفوفه. ونشأ الحزب «الليبرالي» من حزب «الويغ» (أو الأحرار) الذي كان يشكّل إلى جانب حزب «توريز» (أو المحافظين) أحد الحزبين السياسيين المميزين في بريطانيا ومن ثمّ في المملكة المتحدة منذ نهاية القرن السابع عشر ولغاية منتصف القرن التاسع عشر. أما الدفع باتجاه الإصلاح فيجري في عروق الحزب «الليبرالي». قام حزب «الويغ» بطرح «قانون تمثيل الشعب» المعروف أيضاً باسم قانون الإصلاح عام 1832 ولاقى معارضة شديدة من حزب «توريز». وأدخل القانون تغييرات واسعة النطاق على النظام الانتخابي. وساهمت الحكومة الليبرالية برئاسة هربرت آسكيث في وضع أسس دولة الرعاية عام 1908 من خلال قانون «الليبرالية الجديدة» الذي أقرّ معونة البطالة ومعاش الشيخوخة. والجدير ذكره أن الحزب «الليبرالي» قد حقّق آخر فوز له عام 1910. ويضمّ الحزب اليوم بعضاً من السياسيين ورجال الدولة الدوليين البارزين في بريطانيا مثل اللورد ديفيد أوين. عمل اللورد بادي آشداون الذي كان زعيم الحزب من العام 1988 ولغاية العام 1999 ممثلاً أعلى في البوسنة والهرسك بين عامي 2002 و2006. أما البارونة شيرلي ويليامز التي شارفت على الثمانين، فلا تزال تتمتع بصحة جيّدة وتعمل معلقةً وكاتبةً وعضواً في لجنة التلفزيون. وكان منزيز كامبل ناطقاً بليغاً باسم الحزب للشؤون الخارجية من العام 1997 ولغاية العام 2006 قبل أن يتسلّم زعامة الحزب لفترة وجيزة من العام 2006 ولغاية العام 2007 ويرحل عنه بسبب كبر سنه. لكنه لا يزال شخصية محبوبة وتحظى باحترام الجميع. وعلى رغم أنّ شارل كيندي اضطر إلى الاستقالة عام 2006 من زعامة الحزب بعد سبع سنوات على تبوئه المنصب بسبب مشاكل تتعلق بالكحول، يظهر هذا الرجل الاسكتلندي البنيّ الشعر في وسائل الإعلام كمعلّق سياسي محنّك. أدى الاهتمام الذي يحظى به نك كليغ والحزب «الديموقراطي الليبرالي» إلى وضع سياسات الحزب تحت المجهر، لا سيما تلك المثيرة للجدل مثل سياسات تأييد الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والدعوة إلى العفو عن المهاجرين غير الشرعيين الموجودين في بريطانيا منذ أكثر من عشر سنوات وعدم استبدال نظام الأسلحة النووية البريطاني من طراز «ترايدنت». ولم تحظ المسائل الخارجية بما فيها تلك المتعلقة بالشرق الأوسط بانتباه كبير في الحملات الانتخابية للأحزاب الثلاثة الأساسية. إلا أنّ المسألة الفلسطينية - الإسرائيلية هي من بين المسائل التي تؤثّر كثيراً في نفوس الناخبين. يرى عدد كبير من المؤيدين لحقوق الفلسطينيين أن الحزب «الديموقراطي الليبرالي» يملك سياسات تقدمية تقوم على مبادئ محدّدة حيال الشرق الأوسط مقارنة بالأحزاب الأساسية الأخرى. وأعلن المحامي الدولي جون ماك هوغو رئيس منظمة «أصدقاء فلسطين الديموقراطيين الليبراليين» التي تنتمي إلى الحزب لصحيفة «الحياة»: «نحن حزب القانون الدولي». وأعدّت منظمة «أصدقاء فلسطين الديموقراطيين الليبراليين» ورقة حقائق مؤلفة من ثلاث صفحات تنص على سياسة الحزب الرسمية. وتحمل الوثيقة العنوان الرئيس الآتي «التصويت لمصلحة الحزب «الديموقراطي الليبرالي»، هو «تصويت لمصلحة أطفال قطاع غزة وكلّ أطفال فلسطين وإسرائيل». كما أنها تبيّن الاختلافات بين الحزب «الديموقراطي الليبرالي» والحزبين الأساسيين الآخرين. وأشارت الوثيقة إلى أنّ «الحزب «الديموقراطي الليبرالي» هو الحزب الوحيد الذي عارض حرب العراق. كما أننا الحزب الوحيد الذي يدافع عن القانون الدولي الإنساني في الأراضي المحتلة». وتتابع الوثيقة أن الحزب «الديموقراطي الليبرالي» هو «الحزب الوحيد بين الأحزاب الثلاثة الذي دعا إلى التحرك للرد على «عملية الرصاص المصبوب» التي شنتها إسرائيل» ضد غزة. كما دعا إيد دايفي وزير الخارجية في حكومة الظل الذي ينتمي إلى الحزب «الديموقراطي الليبرالي» الأممالمتحدة للتصرف بموجب تقرير غولدستون، مشيراً إلى أن «الأحزاب الأخرى لم تحذوا حذونا في دعوتنا إلى إنشاء محكمة تحقّق في جرائم الحرب فضلاً عن فرض حظر على الأسلحة واتخاذ إجراءات تتعلق بمعاهدة الاتحاد الأوروبي وإسرائيل». فعوضاً عن ذلك، قام كلّ من حزب «العمّال» وحزب «المحافظين» «بالدعوة إلى تعديل اتفاقيات جنيف حتى يحصل الأفراد المشتبه في أنهم ارتكبوا جرائم حرب على حصانة وزيارة بريطانيا». كما أعدّ جون ماك هوغو وثيقة تناول فيها آراء مايكل غوف السياسي والكاتب المحافظ البارز حول العراق وفلسطين. وغوف هو وزير التربية في حكومة الظل وهو مقرّب من محيط كاميرون. كما يرى بعض المراقبين أنه سيكون زعيم الحزب المقبل بعد رحيل كاميرون عنه. وضع غوف كتاباً بعنوان «سيلسيوس 7/7» عام 2006 تطرّق فيه إلى «سياسة التهدئة» التي اعتمدها الغرب والتي أدت إلى المزيد من «الإرهاب الإسلامي» كما عرض «الخطوات الواجب اتخاذها اليوم». وكتب ماك هوغو: «لا يأتي كتاب غوف حول إسرائيل وفلسطين على ذكر رغبة الشعب الفلسطيني في تحقيق العدالة والحصول على الحقوق المنصوص عليها في القانون الدولي أو حقّهم في أن تعاملهم إسرائيل بعدل». فيعتبر غوف أن المطالب الفلسطينية «ملفّقة». ويضيف ماك هوغو أن «ثمة دليلاً دامغاً على أن غوف يظن أنه يجب السماح لإسرائيل بضمّ بعض الأراضي إليها على حساب الفلسطينيين (...) الأمر الذي يُظهر بوضوح بأنه لا يروّج للسلام». ويخشى بعض الداعمين لإسرائيل من أن يحظى الحزب «الديموقراطي الليبرالي» بسلطة أكبر في البرلمان وبتأثير واسع في الحكومة المستقبلية. والجدير ذكره أن صحيفة «جويش كرونيكل» وبعض الصحف الأخرى نشرت مقالات عدائية ضد نك كليغ وسياسات حزبه المتعلقة بإسرائيل وفلسطين. * صحافية بريطانية