يعود المصريون اليوم في الذكرى الثانية لثورة 25 يناير، إلى ميدان التحرير منقسمين بين تيارين. تيار "الإخوان" المتمسك بخيار "الديموقراطية" بعد تسلمه سدة الحكم، وتيار المعارضة الذي يدعو إلى استكمال "الثورة". "والله يا ابني أنا مش عارفة هم بيتخانقوا ليه؟ في الأول قالوا لنا اللي بيحصل ده سببه الثورة على نظام مبارك. طب دلوقتي هم بيضربوا بعض ليه؟ وعلشان مين؟".. بهذه الكلمات البسيطة لخَّصت الحاجة المصرية "زينب" ما يجري من مواجهات أمام وزارة الداخلية، مبدية دهشتها أمام عدسات إحدى القنوات الفضائية التي زارت مسكنها المتواضع وسط المقابر. وفي الجانب الآخر، يشكو "رجب" البائع المتجول في ميدان التحرير، من عدم السماح له بدخول الميدان من قبل بعض المعتصمين، ويقول: "طول عمري وأنا شغال في المكان ده.. مين دول وح يفضلوا قاعدين لحدي إمتى؟". هؤلاء هم الذين خرجت "ثورة 25 يناير" من حواريهم الفقيرة، ومن أحلامهم اليائسة، وتطلعاتهم المجهضة، بعد أن حصرتهم النخبة في أدوار ليس من بينها أن يحلموا بغدٍ أفضل. كلمات عفوية اختصرت أسئلة كثيرة تدور في أذهان غالبية أبناء الشعب المصري في الذكرى الثانية للثورة، ولاسيما البسطاء الذين لم يجدوا لها أجوبة، فاكتفوا بالجلوس على مقاعد المتفرجين، "لعل الله يجعل من بعد عسر يسرا". والناظر لواقع الحال يجد أنهم أكبر الخاسرين، لأنهم يعتمدون في قوتهم على الرزق اليومي، فأمثالهم لا يعرفون التوفير، ولم تجرب خطاهم طريق البنوك أو زحمة الشركات الاستثمارية. فجر جديد عامان مضيا منذ اندلاع الثورة على نظام الرئيس السابق حسني مبارك، التي دفع فيها الشعب المصري أعز ما يملك، ولم يبخل في سبيل الوصول إلى الفجر الجديد بأرواح أبنائه وقوت صغاره. رابط الجميع في ميدان التحرير وغيره من الميادين في مختلف أنحاء الجمهورية.. قرنوا الليل بالنهار، ووصلوا اليوم بالأمس، وتحملوا سياط رجال الأمن، والتحفوا السماء، ورضوا باحتمال برودة الشتاء ولسعة الجوع حتى نالوا مرادهم وتحقَّقت رغبتهم، فسالت دموع الرجال، وأطلقت النساء زغاريدهن، وفرح الأطفال. ظن الجميع أن ليل المعاناة انتهى إلى غير رجعة، وتوقعوا أن تنفتح أمامهم أبواب الأمل، وبدأ أبناء الشعب "الطيب" يحلمون بغد أكثر إشراقاً، فمنهم من اقتصر حلمه على مجرد وظيفة ينعم بها ابنه الذي تخرج من الجامعة منذ سنوات وما زال أسير جدران غرفته يقضي فيها جل وقته، بعد أن تبخرت أحلامه وسدت أمامه الأبواب. ومنهم من كان يرجو أن يجد فرصة في أحد المستشفيات ليعالج زوجته و"أم عياله" التي أنهكها المرض، ومنهم من اقتنع بمصيره وأراد أن ينعم أطفاله بمستقبل أكثر سعادة وأوفر حظاً.. أحلام بسيطة ومشروعة، ما كانوا يستطيعون الحصول عليها في ظل النظام السابق الذي احتكر الثروة لأفراد معدودين وحرم منها السواد الأعظم من الشعب. انفضَّ سامر القوم من الميادين، وعادت الحياة إلى طبيعتها لفترة وجيزة، وما درى مشعلو فتيل الثورة أن دورهم قد انتهى عند هذا الحد، وأن هناك أيادي تتربص بثورتهم التي أذهلت العالم وأجبرت الجميع على متابعتها والإشادة بها. اندلاع الخلافات بمجرد نجاح الثورة بدأت التوترات والاضطرابات في النزاع بين الثوار وأعضاء المجلس العسكري الحاكم الذي كان يرى فيه الشعب بقايا النظام الذي حكمهم، انطلقت الإشاعات وتكاثرت عن رغبة العسكر في حكم البلاد، وأنهم لن يسمحوا للمدنيين بالجلوس على كرسي الحكم أبداً في ذلك البلد الذي لم يعرف طعم الانتخابات الشفافة الحقيقية، فبدأت المطالبة بتسليم السلطة للمدنيين. لم يهنأ الشعب المغلوب على أمره بثورته الجديدة، فازدادت المواجهات وعاد الثوار للشارع ليقاتلوا قادة الجيش الذين أثبتوا حبهم للسلطة وتشبثهم بها. ومما زاد من قوة الشكوك في نوايا رجال الجيش ذلك الإعلان الدستوري الذي أصدره المجلس العسكري، والذي يمهِّد لاستمرار تشبثهم بمقاليد الحكم. وتحت وطأة الضغوط الشعبية لم يجد حكام الفترة الانتقالية بداً من تنظيم الانتخابات التي زادت من حدة الاستقطابات وسط المواطنين، وأفرزت وصول الإخوان إلى سدة الحكم، على الرغم مما صاحب ذلك من سيناريوهات درامية مثيرة عندما انقسم الناس بين "الفلول" و"الإخوان"، وانحازوا مكرهين إلى الخيار الثاني، فكانوا كمن يستجير من الرمضاء بالنار. اختفى أصحاب الثورة الحقيقيون من الشباب ولم يظهر لهم أثر، إذ إنهم كانوا يفتقدون للشكل التنظيمي الذي يجمعهم ويوحد كلمتهم، وتخاطفتهم الأحزاب فيما بينها، حتى الذين بقوا منهم في الحياد لم يكن لهم دور يذكر، واكتفوا بالانضمام لبعض التنظيمات الثورية التي ضاع صوتها وسط الصخب الحزبي، وبضياعهم فقدت الثورة داعمها الأكبر. انتهاز الفرصة لم يضع الوافد الإسلامي الجديد إلى قصر الحكم وقته، وبدأ في ترسيخ دعائم حكمه، وشرع في تنفيذ خطته التي ظلت جاهزة على مدار عشرات السنوات والتي تهدف لبقائه في الحكم أطول فترة ممكنة، فبدأ في التخلص من مناوئيه، وزرع رجاله في كل المواقع الحساسة، وكثرت الأقوال عن استيعاب أنصاره في مؤسسات الجيش والأمن والمخابرات، حتى يضمن عدم انقلابها عليه، كما امتدت يده إلى مؤسسات الدولة المالية والاقتصادية والإعلامية، لتنفيذ الخطة الثلاثية التي طالما ركَّز عليها الإسلاميون في كل الدول التي حكموها، والتي تعنى بالسيطرة على الجيش والمال والإعلام. لم يقف الآخرون مكتوفي الأيدي فبدؤوا في المقاومة، لكنها كانت مقاومة الضعفاء، لأنهم لم يستطيعوا الاتفاق على هدف واحد ووسيلة مشتركة، إذ كثرت بينهم الأهداف الحزبية والمصالح المختلفة، وبينما استفاد منافسهم من تنظيمه الدقيق خسروا هم بسبب اختلافاتهم العميقة. مفترق تاريخي اليوم يقف الشعب أمام مفترق طرق تاريخي يحدد مستقبل بلاده، فإما التزام الصمت والرضا بنتائج صناديق الانتخابات وانتظار الانتخابات الرئاسية المقبلة، وإما مقاومة الحكام الجدد، وكلا الخيارين على درجة كبيرة من الصعوبة والتعقيد، ولا سيما في ظل ما يتردد عن تخطيط الإخوان للبقاء على سدة الحكم بمختلف الطرق، بعد أن أحكموا سيطرتهم على مجلس الشورى، وأقروا الدستور الذي يوافق أهدافهم، وها هم في طريقهم للفوز بمقاعد مجلس الشعب في الانتخابات المرتقبة. اليوم تمر الذكرى الثانية للثورة التي لم تكتمل، ويختلف المشهد بين مظاهرات احتفالية يدعمها ويحشد لها "الإخوان المسلمين" ومن يؤيدونهم، وأخرى تخرج احتجاجاً على تردي الأوضاع المصرية، وإن كان العالم قد راقب الثورة عند اندلاعها وحتى نجاحها بإعجاب كبير، فهو يتابع تطوراتها الآن بخوف بالغ وقلق عظيم. "أخونة" الدولة وعن الطرف المتسبب في عدم تحقيق الثورة لأهدافها يقول المرشح الرئاسي السابق ومؤسس التيار الشعبي، حمدين صباحي، في تصريحات ل "الوطن" إن "الثورة لم تكتمل حتى الآن، ولو مكثنا في بيوتنا سنكون أشبه بمن زرع ثمرة ولم يحصدها، والمعارضة لن تخرج في مظاهرات 25 يناير كرهاً في الإخوان وإنما سعياً لمواصلة الثورة، ورفضاً لمحاولات "أخونة" الدولة والهيمنة على مفاصلها، واستخدام الدين من أجل تحقيق أهداف سياسية". وأضاف "الحكومة مسؤولة عن عدم تحقيق الثورة لأهدافها بسبب تركيز الإسلاميين على الإمساك بكل مفاتيح العملية السياسية وتهميش الآخرين وإقصائهم، كما أن الرئيس مرسي أيضاً يتحمل المسؤولية، لأنه لم يخدم الثورة، وإنما يخدم جماعته". شروط المشاركة وفي ذات السياق يقول رئيس حزب الوفد، السيد البدوي إن "الثورة لم تحقق أهدافها حتى الآن، والسبب في ذلك يرجع إلى مرحلة التحول الديموقراطي التي بدأت بشكلٍ عكسي، فالثورة لا بد أن تتم ترجمتها إلي تحول ديموقراطي من خلال دستور وبرلمان وحكومة منتخبة، ولكن ما حدث هو العكس، حيث بدأنا بإجراء تعديلات في دستور 1971، ثم أجريت انتخابات مجلس الشعب التي قضي لاحقاً ببطلانها، ومن ثم جاء الدستور المختلف عليه. وكما نعرف فإن المقدمات دائما تنبئ بالنتائج، وهو ما يستدعي الخروج للتظاهر مرة أخرى لتأكيد أن مطالب الثورة لم تتحقق، ومنها ضمان نزاهة الانتخابات البرلمانية القادمة، وأن يتم تقسيم الدوائر تقسيماً عادلاً، وأن تصبح جريمة تزوير الانتخابات جناية لا تسقط بالتقادم". وأضاف "حزب الوفد مستمر في جبهة الإنقاذ الوطني حتى لو ترك وحده، حيث إن الجبهة تعد جهة المعارضة الرئيسية في مصر، وهي الأمل الوحيد الباقي لإنقاذ البلاد، واقترحنا في الوفد أن تخوض الجبهة الانتخابات القادمة بقائمة موحدة، حتى لا نصيب الناخب بالحيرة"، نافياً أن يكون هناك توجه داخل الجبهة للتحالف مع السلفيين، لأن أهدافها ومكونتها أصبحت جاهزة، وليس هناك طريق لانضمام أحد جديد، على حد قوله. ويوافق البدوي على ما ذهب إليه صباحي بأن سبيل الخروج من الوضع الحالي يحتاج إلى تنفيذ مطالب المعارضة في الانتخابات القادمة، من إشراف قضائي على تلك الانتخابات وفق مبدأ قاض لكل صندوق، بجانب إجرائها على يومين متتالين، وأن تتم عملية الفرز وإعلان النتائج للمرشحين داخل اللجان الفرعية، إضافة إلى توسيع صلاحيات اللجنة العليا للانتخابات لتكون مسؤولة عن العملية الانتخابية بأكملها. هاجس العنف وبدوره يبدي رئيس مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ضياء رشوان، تخوفه من تداعيات المشهد السياسي الراهن، مشيراً إلى احتمال دخول البلاد في نفق مظلم من الفوضى، ويقول في تصريحات إلى "الوطن": "كان هناك أمل في أن تنهي الانتخابات الرئاسية الجدل وتؤدي إلى استقرار الأوضاع، لكن هذا الأمل ظل يتراجع يوماً بعد آخر لنصل إلى الوضع الحالي بعد 6 أشهر من الرئاسة الأولى المنتخبة، حيث أسهمت الرئاسة نفسها في زيادة أسباب عدم الاستقرار وفتح مزيد من أبواب الصراع والخلاف، وسلكت طريقاً صدامياً لحكم البلاد ممتلئاً منذ أيامه الأولى بالصدمات الكهربائية والقرارات والاختيارات التي لا تحقق ما يبحث عنه المصريون من استقرار وتوافق وطني بين قوى البلاد السياسية المختلفة، واختارت ومن ورائها جماعة الإخوان منذ البداية أن تطبق منهجها هي في إدارة البلاد، والاعتماد منذ الخطوة الأولى على أهل الثقة وحلفاء المواقف الكبيرة أو الصغيرة، لكي تختار كبار المسؤولين عن إدارة الدولة، فضاعت الخبرة المطلوبة والضرورية لحكم بلد كبير ذي ظروف معقدة، وبالتالي ضاع التوافق والاتفاقات التي تعهد بها الرئيس قبل انتخابه للمنصب الرفيع.. ساعد على ذلك اقتصار الحكومة في حديثها عن الأزمة الاقتصادية والوضع الاجتماعي المتدهور على نفس مفردات النظام السابق، من قبيل ترشيد الدعم، وإصلاح الاقتصاد وسد عجز الموازنة العامة، دون أن ترى أو تشعر تلك الفئات الفقيرة والمحرومة بأي أثرٍ مباشر لهذا على حياتها اليومية التي تزداد سوءاً يوماً بعد آخر". خيار ديموقراطي بالمقابل ترفض جماعة الإخوان المسلمين كل ما سبق، مؤكدة أنها لم تأت إلى سدة الحكم إلا بأمر الشعب المصري الذي اختارها عبر صناديق الاقتراع. وقالت على لسان البرلماني السابق والقيادي البارز بالجماعة، أكرم الشاعر: "الاتهامات الموجهة إلى الجماعة بالسعي إلى السيطرة على مفاصل الدولة هي محض أحلام وخيالات، فهي أعلنت منذ الأيام الأولى للثورة أنهم ليسوا الفصيل الوحيد الذي يمكن أن يحكم، ولكن هناك الكثير من الشرفاء والوطنيين الذين مدت إليهم الجماعة يدها. ونرفض من يزعم أننا سرقنا الثورة، ولكن الشعب أتى بنا في الانتخابات.. وهناك فارق كبير بين سرقة الثورة وبين أن تأتي للحكم عبر انتخابات نزيهة شهد لها العالم كله، فالثورة قامت لكي تقام ديموقراطية حقيقية، وهذه الديموقراطية لا بد أن يقبلها الجميع.. الجماعة أمامها فرصة 4 سنوات، إذا نجحت فهذا أمر جيد، وإذا لم تنجح فليأت الصندوق بغيرها". ويعترف الشاعر بأن أكبر خطأ وقعت فيه جماعة الإخوان هو أنهم لم يشكِّلوا الحكومة. وأضاف في تصريحات ل "الوطن": "ترك رؤوس الفاسدين على مفاصل الدولة هو ما جعل النهضة لم تؤت ثمارها حتى الآن، لأن هناك من لا يريد الاستقرار لمصر، ويكفي للتدليل على ذلك دعوات البعض بعدم تحويل الأموال للبلاد.. ومثل هذه الدعوات لا تستهدف إسقاط الرئيس مرسي، ولكنها تستهدف محاربة مصر.