لا شك أن فكرة برنامج "تويتر" فكرة رائدة لتلاقح الأفكار وتبادل الآراء بين مختلف الفئات العمرية والتعليمية والثقافية أيضا، حيث أثبت تزايد عدد المغردين أنه الوسيلة الأكثر استخداما في العالم الافتراضي رغم اشتراطه عدم تجاوز التغريدة لمئة وأربعين حرفا؛ مما أضفى شيئا من التحدي لدى المغرد لإيصال فكرته بهذا العدد القليل من الأحرف؛ إذ يُصنف الأشخاص الملتزمون بجوهر هذه الفكرة على أنهم ذوو مهارة عالية في التعبير عن أفكارهم، لأن التكثيف اللغوي في الجملة يعكس مدى الثراء اللغوي والفكري للمغرد الذي يحاول أن يقول الكثير بعدد قليل من الكلمات. هذا الأسلوب الكتابي الجديد جذب العديد من المشاهير في شتى المجالات لأنه أصبح كنافذة يطل منها على الجماهير المحتشدة لا ليبرهن على قدراته الخاصة في التعبير فحسب، بل أيضا ليظل قريبا من ذاكرة الجمهور من خلال تغريداته المتواصلة حول الأحداث الساخنة سواء تلك الأحداث المتعلقة بالشؤون الاجتماعية أو حتى السياسية. إلا أن أكثر ما لفت نظري في العالم "التويتري" هو تحول الكثير من الدعاة من العمل الدعوي إلى التنظير لخدمة أجندة غير معلنة، فأصبحوا لا يتوانون عن الخوض في السياسة كهدف استراتيجي للتأثير على متابعي تغريداتهم، نتيجة للانفتاح الرهيب الذي أحدثه الإعلام الجديد في حياة شعوب المنطقة، التي لم تكن تستسيغ على الإطلاق ما يطرحه الإعلام الرسمي من وجهات نظر كانت بعيدة كل البعد عن نبض الشارع وهمومه اليومية. لا أود أن يفهم البعض من كتابتي لهذا المقال بأنيَ أستكثر عليهم حق التعبير عن آرائهم الشخصية حول ما يجري من أحداث متلاحقة في عالمنا المضطرب؛ لأنهم بدون مشاحة يشكلون جزءاً مهما من الحراك الاجتماعي خاصة أنهم استطاعوا في السابق - قبل أن تجتاحنا الميديا الجارفة - أن يمارسوا دورهم الدعوي بامتياز من خلال الكتيبات وأشرطة الكاسيت؛ حيث كانت تُعتبر في ذلك الوقت الطريقة المثلى لإعادة تشكيل الرأي العام في ظل عدم وجود فرص حقيقية تتيحها وسائل الإعلام الرسمية. وهذا ربما يبرر النهم الكبير والإفراط الواضح في تعاملهم مع وسائل الاتصال الحديثة؛ لأن غياب تلك المؤسسات الرسمية في عصر الثورة التكنولوجية عن ذاكرة المتلقي – رغم استمرارها بنمطها وأدواتها القديمة – شكلَ غيابا بل قطيعة مع كل ملابسات تلك الفترة الزمنية المتسمة بأحادية الرأي؛ حيث اتخذت هذه القطيعة شكلا من أشكال التحالف الضمني بين مختلف المشارب والتوجهات لأنها عانت في السابق كثيرا من سطوة تلك الوسائل التقليدية على المشهد العام لحياتنا الاجتماعية. اليوم وبعد مرور عقد من الزمن تخللته أحداث غيرت من قناعاتنا وأفكارنا السابقة حول الكثير من الأمور أجد أن أغلب مستخدمي الإنترنت تحولوا إلى ضحايا لهذه التقنية لأنهم لم يشهدوا أي حراك اجتماعي في بيئتهم الاجتماعية سابقاً، حيث لم تكن ثمة أفكار جريئة تحرك مياه الجمود الفكري في بيئتنا. لذا لم يكن من المستغرب أن تصبح الحياة قاسية بالنسبة لأولئك المندفعين خلف كل الوسائط الاجتماعية للتعبير عن آرائهم. ومن المفارقات التي لفتت نظري بشدة وجعلتني أتعمق في البحث عن الزخم الكبير الذي يحظى به بعض الدعاة المتحولين إلى العمل الحركي هو ذلك الهوس المتزايد بين فئة كبير من متابعيهم في إعادة نشر تغريداتهم، أو ما يسمى ب"ريتويت" حتى وإن لم تحمل الجملة (المروتتة) أي مضمون جديد يختلف عن تغريداتهم السابقة، بل تجاوز الأمر أبعد من ذلك حيث قام عدد من المتابعين بإعادة جملة "صباح الخير" لأحد النشطاء الحركيين أكثر من ألف وثمانمئة مرة! وتمثل هذه الحالة الأخيرة دليلا على أن الإعلام الجديد يمثل سلاحا ذا حدين في مجتمعات العالم الثالث بل يٌعتبر خطرا داهما على استقرار المجتمعات؛ لأن الغالبية العظمى من المستخدمين ما إن يقرؤوا أي خبر أو حتى إشاعة إلا واعتبروها حقيقة محضة بسبب غياب المنهج النقدي في تحليل وتفكيك تشعبات الظواهر الاجتماعية؛ الذي أعزوه برأيي - بالإضافة لما تقدم ذكره - لرداءة التعليم الذي لا يؤمن بأهمية التدريب على مهارات التفكير والنقد والمراجعة وغيرها من الأساليب التي تعزز من ثقة المرء بذاته. وأقولها بكل أسف إن مخرجات تعليمنا انعكست بصورة واضحة على الكثير من متابعي بعض المشاهير، حيث وجدوا فيهم سهولة الانقياد وسرعة الاستجابة للأسباب التي ذكرتها سابقا. فمن المؤسف جدا أن نجد الكثير من الشباب يتهافت بهذا الشكل المخيف على كل تغريدة شاردة يترجلها أحد المشاهير في لحظة ضجر أو جلسة استرخاء، تفاعلا مع ذاك الحدث أو تلك الأزمة؛ ليغذي هذه العقول الغضة ويشكلها بقناعته التي ربما تحمل الكثير من الإقصاء والتجييش ضد مخالفيه. ربما قدرهم أن يخوضوا تجربة التفاعل الإنساني عبر وسائل الإعلام الجديد دون أن يحظوا بالقدر الكافي من المهارات الأساسية في مراحل التعليم المختلفة للتعامل مع الثورة المعلوماتية الهائلة، والمهارات الأساسية التي أرمي إليها في هذا السياق ليست متعلقة باحترافية الاستخدام من الناحية التكنولوجية، بل هي ذات صلة مباشرة بالتنوع المعرفي الذي يحفز الذهن على التفكر والتدبر والإبداع؛ لأنه سيشكل القاعدة التي تنطلق منها الاستنتاجات والحجج لإثبات صحة الرأي أو خطئه وهذا للأسف ما تفتقده مناهجنا التعليمية. الآن لا بد أن نعترف بأن الظروف الراهنة غير مواتية على الإطلاق للبحث عن حلول قد تستغرق الكثير من الوقت، لذا أجد أنه من الملائم جدا أن يبادر المثقفون الحقيقيون ليتحملوا مسؤولياتهم تجاه مجتمعاتهم ويخوضوا المعترك الإلكتروني ليقارعوا الحجة بالحجة؛ حتى يجد الشباب المندفعون أن هناك ثمة حقائق تخالف ما يتشدق به بعض الحركيين، ولا ضير أن تشهد الساحة "التويترية" سجالات كتلك التي كانت تحدث في زمن زكي مبارك وطه حسين والعقاد والمازني والرافعي وغيرهم من مثقفي تلك المرحلة العاصفة، بغض النظر عن الدوافع والأسباب التي أدت لمثل تلك المعارك الفكرية الضارية، لأن السجال سيتيح مساحة من النقد والمراجعة للأفكار تجعل المتلقي يقارن بين هذه وتلك. قد أكون مغاليا في تصوراتي واستنتاجاتي حول الخطر الذي يشكله بعض الحركيين من مشاهير "تويتر" إلا أن ما ذكرته سابقا قد يبرر على الأقل سبب هواجسي ومخاوفي. أتمنى أن يُحكم بعض الشباب المندفعين في هذا العالم الافتراضي عقولهم وألا ينجرفوا خلف الأفكار المسمومة لمجرد أن من يُنظِّر لها بعض المشاهير، فأجندة الحركات والتيارات المؤدلجة دائما ما تختفي خلف أستار الحق والفضيلة، وقد لا يدركها المرء إلا حينما يجد نفسه محاصرا بتبعاتها القاسية.