د. وفاء إسماعيل خنكار الأم هي الأمن والحياة والوطن والأرض، في كنفها لا يشعر الفقير بفقره، ولا المريض بضعفه، ولا الطريد بخوفه، ولا الضائع بتشرده، ولا الوحيد بعزلته.. فبأنفاس الأم تخضرّ الأرض، وتغرّد عصافير الصباح. في حضنها ينام القمر مطمئنا، ومن بين أهداب عينيها تشرق الشمس صبية تضج بالحياة. على صفحة وجهها المتعب ترى نضارة الحياة، في صوتها الذاوي تسمع لحن الحنان، في شمعتها الآخذة في الذوبان تضيء أركان البيت، وفي عروق يديها النافرة نقرأ أجمل الحكايات. بغيابها يغيب النور، تختفي زرقة السماء، تصمت الأشجار، تبكي النوارس، وتنتحر الشواطئ. تصبح فقيرا وإن ملكت أموال الدنيا، خائفا وإن أحاط بك الحرس، وحيدا وأن أحطت بكل البشر، حزينا وإن لبست ثوب الفرح، ضعيفا وإن كنت صحيح البدن. رحمك الله يا أمي ورحم جميع موتى المسلمين ورفع درجاتكم وأسكنكم الفردوس الأعلى من الجنة مع النبيين والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقا. أمَّي يا شجرَ الفؤاد أمِّي يا نخل الوطن ركضتُ في حقول قمحك بثوب أبيض حاكته يداكِ المنقوشتان بالحنّاء ثوبي الذي طرَّزتهِ بخيوط الحرير كان طويلاً .. طويلاً جداً فقصَصته على قامتي الصغيرة ..الصغيرة جداً طرَّزتِ أطرافه بخيوط ملونة بإبرة ضئيلة.. ضئيلة جداً خزَّتْ أصبعكِ سالت قطرات دمك مسحتِها بطرحتكِ السَّوداء لكي لا يتعطَّر ثوبي بطهرك كتبت على منديل شعري - وفا - بدون همزة لأنك لا تجيدين سوى تراتيل الفاتحة رسمتِ استدارة الفاء كاستدارة كعكة شعرك الأسود وبخفَّة أقمتِ استطالة الألف كقامتك وأتعبتك التواءات الواو كمشاوير حياتك المرهقة ما زلتُ أذكر ناموسيتك البيضاء تغرسين أستار الياسمين الذي نظمتهِ زهرة .. زهرة ما زلتُ أذكر كوب الحليب تدسِّين فيه عروق الزنجبيل الأخضر لأن قلبكِ يسعل معي كلما سعلت من برد الصباح تعقدين على رأسي منديلا أخضرا كجنائن روحك الخضراء تجدلينَ ضفيرتيّ الصغيرتين تعقديهما بلؤلؤتين من محار عينيك قطع الحلوى كانت أجمل رشوة بحياتي لكي أشرب كوب الحليب و ينمو عشب عظامي وتتفتَّح زهور أحلامكِ و أحلامي يا أجمل الأمهات تسبيحاتكِ وصلواتكِ تُوقظ فلاحات القرية ليعجنَّ الخبز و أسراب الدَّجاج ليلقُط القمح و قطيع الماعز ليرْعى المرج "فسلامٌ عليكِ يا أمِّي وأنتِ تُعدِّين نارَ الصَّباح سلامٌ عليكِ... سلامٌ عليكِ.. فقد آن لي أن أقدِّم بعض الهدايا إليكِ"