وسط تردي الأوضاع الاقتصادية في مصر، تشهد البلاد جدلاً واسعاً، وردود أفعال متباينة حول أي اقتصاد سيكون قادراً على إنقاذ الأوضاع؟ وهل الإسلاميون الذين وصلوا إلى سدة الحكم في أعقاب ثورة 25 يناير قادرون على اتخاذ إجراءات تنعش الاقتصاد المصري؟. والأجوبة على هذه الأسئلة تتباين بين من يرى في "الاقتصاد الإسلامي" منقذاً للأوضاع، وبين من يعتبره مجرد "شعار" أعلنه الإسلاميون للوصول إلى الحكم، وأنه لن يغير شيئاً في وضع الاقتصاد. تجدد الجدل وهذا الجدل تجدد في الشارع المصري، بعدما أجرت الحكومة مفاوضات مع "البنك الدولي" و"صندوق النقد الدولي" من أجل الحصول على قرض، لكن الحكومة عدلت عن هذا التوجه في أواخر شهر يونيو من العام الماضي 2011، مركزة اهتمامها في التفاوض مع "صندوق النقد الدولي" فقط من أجل الحصول على قرض بقيمة 3.2 مليارات دولار. وطلبت الحكومة الجديدة زيادته إلى 4.8 مليارات دولار في نهاية أغسطس الماضي، أثناء زيارة قامت بها مديرة الصندوق كريستين لاجارد للقاهرة، وذلك لمواجهة التحديات الصعبة التي يواجهها الاقتصاد، ومن ثم انتشاله من عثرته لبدء ترتيب الأوضاع مجدداً، خاصة أن الحكومة الجديدة لم تتخذ أي إجراءات ملموسة في إطار الطروحات التي كانت قدمتها القوى الإسلامية في السابق، لمحاولة تعزيز الإيرادات أو ترشيد النفقات أو حتى محاربة الفساد. ولم تسلم الحكومة من النقد على الرغم من إعلانها مبررات لجوئها إلى الاقتراض من صندوق "النقد الدولي"، وهي أسباب وإن كانت تبدو في مجملها "منطقية" خاصة في ظل هروب استثمارات أجنبية تقدر ب 10 مليارات دولار إلى خارج مصر خلال العام ونصف العام الماضيين، وتراجع حجم الاستثمارات الأجنبية المباشر لأكثر من 67 %، وتدهور التصنيف الائتماني لمصر بنحو ملحوظ، وهي عوامل جعلت الحكومة المصرية تعلن عن حاجتها لتلك القروض بأسرع وقت، من أجل جذب الاستثمارات الأجنبية مرة أخرى. وقال خبراء ومراقبون اقتصاديون تحدثوا إلى "الوطن": على الرغم من حالة الجدل الواسع النطاق الذي ثار حول القرض الذي تقوم الحكومة المصرية حالياً بالتفاوض بشأنه مع صندوق "النقد الدولي"، إلا أنه يبدو طبيعياً ومفهوماً، على ضوء خبرات الاقتراض من الصندوق. محاذير مطلوبة ويقول نائب مدير معهد التخطيط القومي المصري الدكتور سمير مصطفى: "عُرف عن القروض التي يقدمها صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي، أنها غالباً ما تكون مشروطة بتطبيق الدول التي تلجأ إليها، سياسات معينة تتسق مع مبادئ الصندوق التي تنحاز إلى الأفكار النيوليبرالية"، مشيراً إلى أنه عادة ما تتم صياغة هذه الشروط وتلك السياسات في "روشتة" اقتصادية موحدة، حيث يطالب الصندوق الدول المقترضة بتطبيقها كشرط أساسي للحصول على القرض، بغض النظر عن تباين الظروف المجتمعية الخاصة بكل دولة عن ظروف غيرها من الدول. من جانبها، أكدت رئيسة مجلس إدارة مركز "الدراسات التجارية والاقتصادية" المصرية الدكتورة ماجدة قنديل، أنه على الرغم من الجدوى الاقتصادية للقرض على الأقل من حيث انخفاض تكلفته المالية، مقارنة مع غيره من القروض التي تعقدها الحكومة المصرية، إلا أن هناك قضايا تمثل محاذير في غاية الأهمية عند تقييم ذلك القرض، ولعل من أبرزها أن يؤدي هذا القرض إلى وضع قيود على السياسات الاقتصادية والاجتماعية، التى ستنتهجها الحكومة المصرية. وأشارت قنديل، إلى أنه وفى هذا السياق لا بد أن تعلن الحكومة المصرية بوضوح وشفافية تامة عن كل التفاصيل المرتبطة بذلك القرض والشروط الخاصة به، مع الأخذ في الحسبان أن قيمة استقلال القرار الاقتصادي المصري في مصر الثورة لا بد من أن تكون أعلى كثيراً من أي مكاسب مادية مرتبطة بالاقتراض، لافتة إلى أنه إذا كان هذا القرض مرتبطاً بشروط، فمن شأنها التأسيس لتبعية الاقتصاد المصري، وتحجيم استقلاله، فلتذهب أموال الصندوق للجحيم، ولتبدأ الحكومة في البحث عن بدائل أخرى، بعيداً عن الصندوق وسياساته. مواقف ومبررات لم تقتصر حالة الجدل وتضارب المواقف بشأن قرض"صندوق النقد" على الشارع المصري فحسب، والمواطن العادي، وإنما امتد الأمر إلى القوى السياسية والأحزاب أيضاً وبات لكل منهم موقفه المختلف ومبرراته. وبينما أعلنت التيارات الإسلامية موقفها الرافض لهذه القروض بدعوى عدم شرعيتها، لخضوعها ضمن حدود "الربا" لتتخذ موقفاً متطرفاً، إلا أنها سرعان ما تراجعت عن رفضها مؤكدة حاجة مصر إلى هذا القرض بشكل جدي، بينما ظلت تيارات وقوى سياسية أخرى عند موقفها من القرض، ولم تغيره تقريباً حتى الآن، وكانت تلك القوى قد بررت رفضها للقرض، متعللة بأن الحكومة يجب أن تطرق كافة السبل الأخرى لتعزيز إيراداتها، قبل اللجوء إلى الاقتراض الخارجي، مع التركيز على أهمية وضع خطة متكاملة لمكافحة الفساد، والسيطرة على النفقات، وتوفير مناخ من الشفافية، يتم من خلاله توضيح أبواب إنفاق ذلك القرض وآليات سداده. ويقول رئيس مركز "البحوث الاقتصادية" بكلية التجارة جامعة القاهرة الدكتور أسامة الأنصاري، إن الاستثمار هو المحرك الرئيس لأي نشاط اقتصادي، وقد شهدت مصر خلال الفترة الماضية وجود ترسانة من التشريعات الاقتصادية التي تشجع على مساهمة القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي والتنموي، مشيراً إلى أن المردود من هذه الإصلاحات كان ضعيفًا للغاية، وينبغي أن تركز سياسات الاستثمار مستقبلاً على قطاعي: الصناعة والزراعة، واستعادة ما فقده هذان القطاعان خلال الفترة الماضية، وأن تكون مشاركة القطاع الخاص قائمة على أسس صحيحة. فقدان البوصلة وأضاف الأنصاري، أن مصر افتقدت لبوصلة سياسة صحيحة تجاه الاستثمار الأجنبي المباشر، فلم تكن هناك أجندة وطنية، تحدد احتياجاتها ودور هذه الاستثمارات، فتوجه معظمها نحو قطاع البترول والاستحواذ على الشركات الوطنية، وكذلك نشاطي العقارات والسياحة، ولم تسهم هذه الاستثمارات في خلق فرص عمل بالقدر المطلوب، نظراً لاتجاهها إلى الأساليب الكثيفة رأس المال، بينما تحتاج مصر حالياً للاستثمارات الكثيفة العمل؛ لاستيعاب العاطلين والداخلين الجدد لسوق العمل. ووفقاً لبيانات الهيئة العامة المصرية للاستثمار والمناطق الحرة، بلغت الاستثمارات الأجنبية المباشرة في عام 2009 -2010 نحو 8 مليارات دولار، لتتراجع خلال العام الماضي 2011، إلى 2.2 مليار دولار بتراجع بلغت نسبته نحو 67 %، وأخذت تلك الاستثمارات في التراجع خلال العام المالي الحالي 2011-2012 لتصل إلى 2.1 مليار دولار. وأكد الأنصاري، أن المطلوب بعد ثورة يناير أن تأتي هذه الاستثمارات وفق احتياجات التنمية، وأن تعطى من المزايا بقدر مساهمتها في جلب التكنولوجيا والصادرات، وإتاحة فرص العمل، وعدم مزاحمة الصناعة الوطنية. إلى أين؟ وعلى الرغم من الظروف القاسية التي يعانيها الاقتصاد المصري منذ اندلاع ثورة يناير، تمثلت في تراجع الإنتاج وزيادة الاستيراد، مما تسبب في ضعف أداء الجنيه المصري أمام غالبية العملات، وزيادة عجز الموازنة بشكل بات خطيراً، علاوة على زيادة ديون مصر الداخلية والخارجية على نحو مرعب، إلا أن الخبراء أكدوا أن مصر ما زالت لديها فرصة مواتية لتحقيق التعافي الاقتصادي، من خلال تعزيز الاستثمارات القادمة من الدول ذات الاقتصاديات الناشئة، وخاصة الآسيوية وتجمع "البريكس" الذي يضم البرازيل وروسيا والصين والهند وجنوب أفريقيا. ويقول عميد كلية التجارة بجامعة الزقازيق الدكتور محمد الغرباوي، إنه وبعد نجاح ثورة "25 يناير" في القضاء على نظام مبارك، تتطلع مصر إلى أداء اقتصادي مختلف، يجعل منها دولة قوية اقتصاديا وسياسياً بما يحقق آمال الشباب، الذي لا ينحصر فقط في تلبية مطالبهم في الحصول على العمل والخروج من دائرة الفقر، ولكن واقعًا جديدًا يجعل من الأداء الاقتصادي لمصر، وجهاً جديداً يُكرس مبدأ تقديم أهل الخبرة على أهل الثقة ويكبح الفساد، ويصنع إرادة سياسية واقتصادية، تستغني بها مصر عن المعونات، ولا تخضع للتبعية أو وجود شبهة تأثير على قرارها السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وحدد الغرباوي، عدة محاور لتحقيق هذه الأهداف تصلح لبلورة رؤية إصلاحية ينطلق منها الاقتصاد المصري. ومن أبرز تلك المحاور: ضرورة إعادة الثقة للمستثمرين في النشاط الاقتصادي ومجتمع الأعمال، وضرورة الفصل بين السلطات، إضافة إلى ضرورة إعادة النظر في دور المؤسسات المالية في مصر والجهاز المصرفي، وسوق الأوراق المالية، في ضوء إستراتيجية تنموية جديدة. تراجع الاستثمارات من جهتها، أكدت أستاذة الاقتصاد بجامعة القاهرة الدكتورة نهال زخاري، أن مصر ينبغي عليها تجنب الاعتماد بشكل رئيس على الاستثمارات القادمة من القوى الاقتصادية التقليدية كالولايات المتحدة وأوروبا، التي تعاني من أزمات اقتصادية ومالية، متوقعة تراجع معدلات التدفقات الاستثمارية القادمة إلى مصر من القوى الاقتصادية التقليدية خلال العامين المقبلين. وأشارت إلى أن الحكومة الجديدة عليها توفير البيئة المواتية للاستثمار؛ لجذب المزيد من التدفقات الرأسمالية القادمة من الدول الآسيوية، لافتة إلى أن الأزمات المالية بالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي توفر فرصة مواتية لدول منطقة الشرق الأوسط ومن بينها مصر لزيادة نصيبها من تلك الاستثمارات الأجنبية القادمة من الأسواق الناشئة. كلمة السر وتوقع الخبراء عودة الاستثمارات الأجنبية لمصر في الفترة المقبلة، خاصة الاستثمارات القادمة من دول الخليج وعلى رأسها، المملكة العربية السعودية وقطر، لافتين إلى أن زيارة الرئيس المصري محمد مرسي إلى السعودية، سيكون لها مردود إيجابي على الاقتصاد المصري خلال الفترة المقبلة، وعول الخبراء على الاستثمارات القادمة من الخليج، والتي ستتفوق على الاستثمارات الأميركية والأوروبية. ويقول الخبير الاقتصادي الدكتور رشاد عبده، إن مصر تتجه في الطريق الصحيح لتشجيع وجذب الاستثمارات الأجنبية، خاصة أن التواصل مع المستثمرين الجادين والعمل علي حل المشاكل التي تواجههم بشكل سريع، تعد من أسرع الطرق التي ستزيد حجم الاستثمارات والتدفقات الأجنبية إلى السوق المصري. وأضاف عبده، أن نجاح القيادة المصرية في توصيل عدد من الرسائل إلى مجتمع الأعمال العربي، والتأكيد على أن مصر مستمرة في دعم وتطبيق سياسة الاقتصاد الحر ومراعاة العدالة الاجتماعية، له فوائد كثيرة للغاية، وكذلك في سياستها نحو الإصلاح الاقتصادي ودعم مناخ الاستثمار، مشيراً إلى ضرورة العمل على نمو الاستثمار خلال الفترة المقبلة، وذلك لخلق المزيد من فرص العمل ونمو حركة السوق.