بعد أكثر من 18 شهرا من انتصار ثورة ال25 من يناير المصرية، بدأت جردة الحساب الاقتصادية على الأرض لمواجهة تداعيات انكماش الاقتصاد المحلي، وتعثر عملية التنمية، وهجرة رؤوس الأموال، وإحجامها عن الاستثمار، بانتظار ما ستسفر عنه الأوضاع السياسية، ومدى الاستقرار الأمني، وصموده أمام الاستحقاقات المتزايدة، فضلا عن التوجه الاقتصادي للإخوان المسلمين الذين يسيطرون على الرئاسة والسلطتين التنفيذية والتشريعية. أهم امتحان هذه الأيام هو دخول الإخوان في مفاوضات مع صندوق النقد الدولي لاقتراض مبلغ 4.8 مليار دولار أمريكي، وتداعيات هذا القرار الذي كان مرفوضا أيام الحكومة الانتقالية التي كانت تحت سلطة العسكر. فالجدل في مصر يزداد حول تغير الموقف الإخواني، وربط قبول القرض – المشروط أصلا من المؤسسة المالية الدولية – بالحديث عن الإيدولوجيا في مسألة القبول به، باعتبار القرض ربويّا لا يجوز الحصول عليه شرعا. مسألة الاقتراض في مصر مشكلة مركبة، لا تخضع فقط للإيديولوجيا، خصوصا بعد أن تراجعت احتياطيات النقد الأجنبي من 36 مليار دولار في العام 2011 إلى 14.6 مليار دولار حاليا، بتراجع نسبته 60%، في وقت تعاني فيه الموازنة الحالية من ضغوطات كبرى بسبب العجز المتوقع بلوغه إلى 22.5 مليار دولار. هذا الوضع المضطرب أثّر على أداء سوق الأوراق المالية (البورصة)، وقلّص من تداولاتها بشكل كبير أمام حالة الترقب التي يعيشها رأس المال، الذي لن يغامر باستثمار أمواله ما لم يتأكد من وصول صكوك الموافقة، والضوء الأخضر من المؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وهو الأمر الذي تسعى إليه الحكومة المصرية الجديدة في عهد الإخوان المسلمين، الذين يجدون أنفسهم أمام استحقاقات ليس فيها صغير، مثل معالجة الاعتراضات المتزايدة على لجنة الدستور، ومواجهة البطالة، وكيفية الارتقاء بواقع البنية التحتية التي تعاني من تدهور كبير في قطاعات مهمة مثل الطرق والمواصلات والكهرباء والعشوائيات التي هي مشكلة بذاتها. ربما قاد هذا الوضع إلى توقيع مصر 36 اتفاقية في الفترة الممتدة من يناير2011 حتى 25 يوليو 2012، حسب تقرير صادر عن وزارة التخطيط والتعاون الدولي المصرية، وبلغ إجمالي هذه الاتفاقيات 5.8 مليار دولار، بعضها منحٌ لا ترد، ونحو 5.5 مليار دولار عبارة عن قروض ميسّرة. لكن هذه الاتفاقيات لا تغطي العجز والاحتياجات المتزايدة لفواتير الغذاء والتنمية والتغلب على الأزمات التي خلّفها النظام السابق. لذلك جاء قرض صندوق النقد الدولي الذي جرى التفاوض عليه أثناء زيارة رئيسة الصندوق إلى مصر مؤخرا، لتضع الشروط المعتادة والمتمثلة في التخلص ممّا تبقّى من القطاع العام، وتقليص الدعم للسلع الغذائية والمحروقات، ما يعني انزلاق فئات جديدة إلى خط الفقر أو تحته، حيث أدّت سياسات النظام السابق في هذا الشأن إلى زيادة نسبة الفقراء في الريف المصري إلى 40%، وهي مرشحة إلى الزيادة إذا ما أقدمت الحكومة الحالية على عمليات جراحية تمس الدعم، في ظل ازدياد فاتورة استيراد القمح لتصل إلى أكثر من ستة مليارات دولار سنويا، وتحتاج مصر باعتبارها أكبر مستورد للقمح في العالم، إلى استيراد ما بين 9 إلى 10 ملايين طن سنويا من القمح، وتعتمد بشكل كبير على سوقي روسيا وأوكرانيا اللتين تعثر الموسم لديهما فسجلت أسعار هذه المادة الغذائية المهمة للمصريين ارتفاعا سيزيد من إرهاق الخزينة. وإذا ما أضيفت مشكلة القمح الفاسد وذاك غير المطابق للمواصفات والمعايير الغذائية، فإن الأمور سوف تتعقد أكثر في ظل وجود عشرات الشركات المحلية والأجنبية لاستيراد القمح، بما فيها شركات المقاولات والنفط التي دخلت في السنوات الأخيرة على خط هذه التجارة المضمون ربحها. إذا، يواجه الإخوان أزمة كبرى وقد انحشروا بين نارين، نار القروض «الربوية»، ونار ضرورة الاقتراض لمواجهة التدهور الاقتصادي والعجوزات في الموازنة العامة. وفي هذا السياق، قد تشكل القروض والمنح التي وعدت الدول الصديقة بتقديمها جرعة مخدرة للاقتصاد المصري لكنها لن تعالج الأزمات المستفحلة. فقد أعلنت دولة قطر أنها ستقدم عشرة مليارات دولار، قدمت منها العام الماضي 500 مليون، وأعلنت أنها ستضع وديعة في البنك المركزي بمبلغ ملياري دولار، بينما وعدت الولاياتالمتحدةالأمريكية بتقديم 500 مليون دولار لدعم الموازنة العامة، وعشرة مليارات دولار لتنفيذ مشروعات تنموية في منطقة سيناء، كما أعلنت القاهرة أنها تتفاوض مع الرياض لتقديم قرض ميسر مقداره 3.75 مليار دولار. وأيا يكن القرار الذي ستتخذه الحكومة الحالية، فإن طريق الاقتراض لا رجعة عنه حسب المعطيات المثبتة، وحتى لو لم تستخدم مصر قرض صندوق النقد الدولي، حسب قول وزير التخطيط والتعاون الدولي، فإن الضغط على المواطن العادي لتحمل أعباء هذه القروض سيكون له تأثير سلبي على جماهيرية الجماعة التي بدأت بتنفيذ تغييرات إدارية إيذانا بخلع كوادر النظام السابق أو ما تفترض الجماعة أنهم كذلك، وتثبيت عناصرها مكانهم.