عندما وقع «ميخائيل ستروجوف» أسيرًا لدى التتار، خططوا أن يعموه بالحديد المحمّى، كان رجلًا صلبًا، لكنه حمل في قلبه حبًا دفينًا؛ ولأجل هذا الحب البعيد، سالت دموعه، وكانت تلك الدموع، تحديدًا، هي ما أنقذه من العمى، إذ خففت من حرارة الحديد. مشهد «ديدي هوبرمان» لهذا البكاء البطولي يُعيد تشكيل تصورنا للدموع، فهي لم تكن ضعفًا بل كانت حالة من التحول، قدرةً على التعبير عن ألم إنساني صارخ بعمق لا يقدر عليه سوى أصحاب القلوب القوية، أعادت هذه الصورة للفيلسوف الطفلَ الخائفَ الذي كانه ذات يوم، وجعلت مشاعره تكتسب شرعية مدهشة، حيث يمكن للرجل، على غرار ستروجوف، أن يُظهر عواطفه دون أن يكون ذلك نقصًا في رجولته. في أعمال «داروين» المصورة للعواطف الإنسانية والحيوانية، يظهر أطفال يبكون، ينوحون، بالنسبة لداروين، كانت العاطفة ظاهرة بدائية موجودة لدى الطيور، والكلاب، والقطط، وأيضًا لدى البشر الأدنى، إما لأنهم ينتمون إلى «أجناس بشرية قليلة الصلة بالأوروبيين» أو لأنهم أطفال أو نساء، حيث تظهر بشكل واضح لدى «المجانين والعجائز»، بصيغة أخرى، الإنجليز والبالغون لا يبكون، وهذه الهرمية النفسية والقيمية ليست بعيدة عن بعض أفكار «فرويد»، حيث كان يعتقد أن الوهم العاطفي جزء من مرحلة طفولية في الشخصية، ويتجلى أساسًا لدى النساء، لكنه لا يليق بالذكر البالغ. إن دعوة «كبح الدموع» شائعة بين من يُطلب منهم إظهار الصلابة، وأداء أدوار تعاكس التعبير العلني عن العاطفة، ومع أن البكاء أصبح مسموحًا به علنًا، حتى في عالم الرياضة، إلا أن بكاء طفل بصوت عالٍ في مكان عام قد يخلق توترًا، حيث يظل بكاؤنا الشخصي محاطًا بأسئلة في دواخلنا، فهو يربكنا حينما يظهر فجأة ويخرج عن سيطرتنا. الشخص الذي يبكي يكشف عن جوهره للآخرين، مُظهِرًا جزءًا من معاناته الداخلية التي لا يستطيع إخفاءها، ومع ذلك، هناك خطر أن يُعتبر هذا الكشف ضعفًا أو «رثاء ذاتيًا» يجلب تعاطفًا لحظيًا، حيث يظهر الصراع الأبدي بين «الباثوس»، كحالة من التأثر العاطفي، وبين «اللوغوس»، كحالة من العقلانية. بعد «نيتشه»، بدأت الفلسفة تميل إلى الاعتراف بالعواطف، لكن التناقض بين العاطفة والعقلانية لا يزال قائمًا في الوعي العام، حيث تٌعبر الدموع، والاحمرار، والتعرق عن حركة الروح في الجسد، وهي ليست مجرد أحاسيس وضيعة بل ضرورية لفهم ما يدور في داخلنا ولتحديد اتجاهنا. في تلك اللحظات التي تسيطر فيها العاطفة، وتنفصل عن وعينا، تبدو الذات كأنها ليست «سيدة بيتها»، لكنها في المقابل تمنحنا الفرصة لأن نُرى ونُفهَم. فالانتقال من «أنا أبكي» إلى «هو يبكي» يشكل بُعدًا للذات ينقل الألم الشخصي إلى مشهد مرئي يُحسّه الجميع، وفي الطقوس الجنائزية، يتحول الحزن الفردي إلى حزن جماعي، ويكتسب بعدًا أخلاقيًا يوحّد المجتمع. الدموع تعكس تجسيدًا مزدوجًا للعواطف؛ فهي من جهة، تفريغٌ طبيعي للتوتر والحزن، تنبع من أعماق النفس حين تعجز الكلمات عن التعبير، لكن، من جهة أخرى، تعتبر تجليًا لحالة الوجود الإنساني، فهي تعبير عن الضعف الذي يسكننا جميعًا، وعن الشوق والحنين لأشياء لا تُنال بسهولة. «ديدي-هوبرمان» يرى في الدموع نافذة تفتح على قضايا إنسانية كبرى، حيث تقلب التوازن بين العاطفة والعقلانية، وتجعلنا نواجه ذواتنا بصدق تام، فالدموع، لا تعبر فقط عن انفعال لحظي، بل تمثل فيضًا من الوعي الداخلي وانعكاسًا للصلة العميقة بين الإنسان وذاته، وبين الفرد والمجتمع. الدموع تنبع من أعماق النفس حين تعجز الكلمات عن التعبير، تجليًا لحالة الوجود الإنساني، تعبيرًا عن الضعف الذي يسكننا، وعن الشوق والحنين لأشياء لا تُنال بسهولة.