كان الناس يقيسون الحديث عن الحرب العالمية بمسطرةٍ لا تحتاج إلى تأويل، فإذا وقعت قنبلةٌ ألمانية على إحدى المدن، فإنَّ الأقلامَ تُباشِر آلامها بالكتابةِ التي تَفهمها الصحافةُ (سيدة الخبر بلا منازع). لكن في تلك الأثناء التي كانت القنابلُ الألمانيةُ فيها لا تَهدأ على مدينة ليننجراد، هَربَ الكاتب ميخائيل زوشينكو إلى مدينة (ألماتا) في كازاخستان متأبطًا أوراقَ مادةِ كتابِه (قبل شروق الشمس)، وكانَ هذا الكتاب يتتَبّع داءَ الاكتئابِ ليقصّ جذورَه، ولم تكن الحربُ فعليًا إلا اكتئابا جماعيًا، سيطر على الأمم وتفاصيل الناس وأروقةِ الحياة، لذا كانَ الكتابُ حديثًا حربيًا من الجذورِ التي لا تُرى إلا مِن فَلّاح عتيقٍ يَسقِي حقلَه بماءِ عينيه. وعلامةُ تعميمِ اكتئابِ زوشينكو على الناسِ كلهم آنذاك، تلك الحكاية التي جرت له حين تَحدث مع طبيبٍ نَفسي فشكا إليه داءَه، فأشار عليه الطبيبُ بقراءةِ قَصص زوشينكو؛ لأنها تُزيل الهمَّ في زمن أغبر، فما كان من زوشينكو إلا أن قال للطبيب: (أنا زوشينكو)! ولا أدري عن ردة فعلِ الطبيب حينها، ويُمكِن أن تُتخيّل على أنَّها صورةُ الناسِ كلهم قد حضروا إليه ذلك اليوم، أو أنَّ الاكتئابَ نفسَه حضر إليه ليتعالج من نفسِه. كان زوشينكو يُفكِّر في اكتئابه الخاصّ، لكنَّه يكتبُ كيف يكتئب الناس غير المتعلمين، أولئك الذين لم يُشعلوا الحربَ، ولم يُبدوا آراءهم، لأنهم في عرف مُشعِلي الحرب المتعلمين لا رأي لهم؛ لهذا نصح زوشينكو أحدَ الذين بدأوا الصعود على سلم الكتابة قائلًا له: «انظر لغيرِ المتعلّمين وسترى تفكيرًا مختلفًا». ويُمكِن أن نُحيلَ هذه العبارة لصراعِ الاختيار الذي عاشَه زوشينكو - وهو على أعتابِ شحن أغراضه في الطائرة- بين أوراقه المخطوطة، وملابس شتوية يتدفأ بها من شتاء أوزبكستان البارد. وكانت تلك اللحظة انتصار الأدب، إذ فضّل الأوراق على الملابس، لكن ما الأدبُ إلا مجموع أفكارِ غير المتعلمين تُسطَّر في دفاتر المتعلمين، أو ما الأدبُ إلا أقمشة حاكها غير المتعلمين، ففصّلها المتعلمون ملابسَ ثقافيّة متنوعة. لقد تَدفأ زوشينكو بمخطوطاتِه -التي جهز ورقَها غير المتعلمين- ليكتب عن اكتئابِ بردِ الحربِ التي يُشعل نارَها المتعلمون، بأجسادِ غير المتعلمين! مما تريد أن تقوله المقالة أنَّ الحالةَ التي يكتب بها زوشينكو تضمر صراع المتعلمين مع غير المتعلمين، وتريد هذه المقالة أن تُسميها (الكتابة الحربية)؛ لأنَّ الكتابة التي تكتب عن الحرب فعليا ليست كتابة حربية، بل كتابة انعكاسية عن الحرب! فقبل كتابِه الذي نحن بصدده، كتب زوشينكو رواية (الشباب المستعاد)، وجعل في آخرها فصلا مستقلا، به مقالات تُوضّح سلوك أبطال الرواية يُخاطب بها القارئ غير المتعلم، إلا أنه فوجئ بأنَّ المتعلّمين هم الذين تربّصوا للمقالات ونقدوها. ولهذا لما كتبَ كتابَه (قبل شروق الشمس) تفادى ما فعله سابقًا وجعل نمط الكتاب في بنية واحدة، ووصفه قائلًا: «كما يمكن للبندقية والطلقة أن تكونا شيئًا واحدًا». تأمل كيف اهتدى لهذا النوع من التشبيه!، وما ذاك إلا لأنَّ باطن الحرب اندماج العلم مع الجهل، وظهورها في صوت البنادق. فأين مَن يكتب عن الباطن ممن يكتب عن الظاهر؟ التفاتة: لهايدغر مقولة (حربية) عصارتها: إذا حصرنا معرفتنا بنيتشه بما كتبه فحسب، فلن نُنتِج المعنى الذي لم يَقله.