أوصي اصدقائي دائماً بألا يقرأوا ادب الاكتئاب، وأزيد فاوصيهم بألا يقرأوا صحافة الاكتئاب. أدب الاكتئاب وصحافة الاكتئاب لهما علامات وكلمات مميزة، مثل عبارات "الزمن الرديء" و"التردي" و"الهبوط" و"الطغيان الشامل" و"المصير التعيس للمواطن الضعيف". والغريب ان هذه المعاني ومشتقاتها قد انتقلت من الادب والشعر ومن الصحافة والمقالة الى السينما والى مسلسلات التلفزيون وتستهدف السيطرة ايضاً على المسرح. وقد انطلقت عواصف هذا الادب وهذه الصحافة وهذه الفنون اول ما انطلقت اثر هزيمة 1967، ولاتزال حتى اليوم تتخذ من حزيران يونيو كل عام موسماً لها تردد فيه للعرب جميعاً اصوات النذير. ومع ان العرب قد اجتازوا محنة 1967 بافضل ما يستطيعون فان عواصف ما سمي بأدب النكسة او ادبيات النكسة انتقل من موسم حزيران الواحد كل عام الى حالة متصلة طول العام. وقد اتخذ ادب الاكتئاب لنفسه الواناً واشكالاً: ففي الاعمدة والاركان الصحافية من ينذرنا باننا لا مكان لنا في العالم الجديد، ولم ترد اسماؤنا في كشوف المنقولين الى القرن الحادي والعشرين، وان اموالنا الى ضياع، وانهارنا تسلب منا وآثارنا تتهدم، وحزام الزلازل سيتحول الى حزام للبراكين، والحمم النارية هي نصيبنا في الدنيا. بينما نشط فريق آخر ينذرنا بضياع فرصتنا في الآخرة وبئس المصير. انظر الى أفلام السينما وقد انتقلت اليها روح الاكتئاب وادبياته، وكلها تدور حول محور: الابناء يقتلون امهم، ومرة يقتلون أباهم، والاخ يغتال حق اخيه، ويحرم ايتامه من مالهم، واللص يفيد من جريمته بينما يكرر المؤلف ويؤكد المخرج ويجتهد الممثل في التعبير عن ان الضحايا تبكي... الضحايا تصرخ... الضحايا تلقى مصرعها... الضحايا يجرفها الضياع ولا من مغيث! والسينما شاع فيها من غير مناسبة العنف الدموي، وشهوة الانتقام، والردع بالقوة الغاشمة، وتسأل اين الشرطة يا فنانين؟، اين المحكمة يا مؤلفين؟، اين الجيران - حتى - ليتدخلوا ناصحين او زاجرين؟، وكأن المؤلفين والفنانين يطيلون لك ألسنتهم وهم يرددون العبارات التهكمية: "بوليس ايه كل سنة وانت طيب"؟! "جيران ايه الله يكرمك"؟! الدنيا كانت "بخير" في طفولتنا، وشبابنا كانوا يرددون من حولنا "الدنيا بخير"، ولكن ويلنا اليوم من كتاب الاكتئاب وافلامهم. * * * العجيب ان الكآبة والاكتئاب أصبحا مرضاً شائعاً تنتقل عدواه من قلم الى قلم ولا اعرف له مصلاً واقياً. والعجيب ايضاً ان من اصاب قلمه او الكاميرا التي بيده هذاپالمرض تصيبه هو ذاته حالة من الاستمتاع بتعذيب الآخرين، وربما بتعذيب النفس، فيسابق نفسه في الاغراق في دعاواه المتشائمة، ويجد نوعا من الاحساس بالكبرياء والتعالي على الآخرين. انه يعرف ما يحيق بهم من مصائب وكوارث وهم لا يعلمون، وعلى كل: اللهم قد بلغت، اللهم فاشهد. وفي هذا المناخ الفني والاعلامي والثقافي يتأثر الكثيرون، حتى تجد الناس العاديين يكثرون على غير عادتهم من ترديد قصص الفساد وشائعات الجرائم الخفية، وهم يجدون في ذلك ما يشعرهم بأنهم ايضاً عارفون وحاضرون لا تفوتهم شاردة أو واردة. وقد عرفت اصدقاء لي اصيبوا حرفياً وطبياً بمرض الاكتئاب، شفاهم الله، وهي حالة تصيب المثقفين بسبب المحاولات المتصلة لتهميش دورهم وتحجيم حضورهم الاجتماعي وهو شيء قديم ومعروف. ولكني لا اعرف فلاحاً او عاملاً او محدود الدخل مصاباً بالاكتئاب وهي حكمة الهية ورحمة سماوية للذين اصابتهم الدنيا في الرزق او في بساطة التعليم. ولكني الآن اخاف عليهم... فألسنة اللهيب تتفجر من التلفزيون ومن الفيديو ومن الكاسيت، وألوان الغناء الحديث تريد ان تصل الى الريف ايضا والى احياء محدودي الدخل لتصيبهم بمرض المثقفين وسكان الاحياء الراقية، لا قدّر الله. * * * وبسبب عدم توصل العلم الى مصل للوقاية من ادبيات الاكتئاب وفنونه ومن صحافة الاكتئاب، انتقل المرض الى فئة كنت احبها تملك المناعة ضده، وهي فئة الشباب، فالشباب كما اعرف هو سن المرح وخلو البال وحب الحياة، فلماذا نجد منه فئة اغلبها من المتعلمين وقد اصابهم هذا الحزن وحب الانطواء والانسحاب وفئة بلغ بها التشاؤم الى حد التطرف والصدام واطلاق الرصاص؟ ومن الذي اصاب هؤلاء الشباب باليأس من الناس؟ سيدي، فتش عن بذور الاكتئاب في ادبيات السينما والمسرح والتلفزيون والصحافة. ان السذج وحدهم هم الذين يفهمون ان الآداب والفنون ومخاطبة الناس هي تكثيف القبيح وتصوير الشرير. ان الفنون والآداب والصحافة والثقافة انسانية في جوهرها وهي حديث الانسان عن اعمق ما في روحه ونفسه. وأعمق ما في الانسان هو الخير والصفاء والعدل. ان الادب الراقي والفن الراقي هما ادب وفن تقوية الروح الانسانية وايقاظ الملكات الطيبة في الانسان وتعزية المرهقين والمكدودين والضائعين بأن الحق يعود، وان النفس الطيبة لا تتلوث بالظلم، وان الجريمة لا تفيذ، وان العدل يعود ميزانه ويستقيم، وان رحمة الله واسعة. ويا أيها الزملاء من الكتّاب والصحافيين والفنانين، ارحمونا يرحمكم الله، وبشرونا ولا تنذرونا، او بشرونا مرة كلما انذرتمونا مرة، وتذكروا وأنتم تكتبون وتخرجون وتمثلون وتغنون انكم في الواقع تنعمون بطيبات الحياة وبما اعطاكم الله، وانكم تبالغون في تكسير مجاذيفنا، واثارة شكوكنا في من حولنا من الاقارب والاصدقاء. وانكم تنقلون الينا عدوى الاكتئاب، ربما وأنتم لا تشعرون، فرويدكم، وحنانيك يا ايها القلم الذي يقطر مداداً اسود. ويا اصدقائي ويا قرائي لا تقرأوا او تشاهدوا ابداً وأنتم مستسلمون، وانما اقرأوا دائماً بعين نقدية لما تقرأون، وشاهدوا بوعي نقدي لما تشاهدون، واستمتعوا من دون ان تصدقوا كل ما يكتب في الصحف او يرسم على الشاشة او يقال في المسرح. صدقوا بعضه وألقوا ببعضه في خلايا النسيان. * كاتب مسرحي مصري.