فالحمد لله وحده، على الوصول لختام شهر رمضان، شهر الرضا والرضوان، وأسأل العزيز القادر، أن يمن علينا بالتوفيق التام، ويعيننا على ما يرضيه عنا. وجدت، وقبل يومين من استقبال العيد، رغبة ملحة في الكتابة باختصار عن التطرف، وجعل مقالي يدور حوله، خصوصًا وأننا نسمع بين الحين والآخر كلمة «التطرف»، وتضيع العقول في المفاهيم المتعلقة بهذه الكلمة، وبهذا المفهوم. المعنى الأعم للتطرف هو الميل عن الوسط الممدوح، وعدم الثبات على حال واحد، وتجاوز حد الاعتدال، والخروج عنه؛ وهذه المعاني تختلف بحسب اختلاف الزمان والمكان، وحتى الإنسان نفسه؛ وللتطرف أنواع، وللأنواع أسباب، فمن الأنواع «التطرف الفكري»، وكذلك «التطرف القيمي»، والمتطرف فكريا، قد يكون مسلما، وقد يكون غير ذلك، ومن أبرز علامات المتطرف المسلم مخالفته للسواد الأعظم من المسلمين، والتجرؤ على مذاهب العلماء، والنيل من تاريخ السابقين؛ أما المتطرف قيميا، فصاحبه دائم الميل عن الفضائل، وكثير الانغماس في العبث والميوعة والمتع والماديات، ومن أصحابه وهذا عجيب من يعشق جلد الذات، ومن يحرم نفسه من الطيبات، ويجمع الجميع انعدام القدرة على التعمق في التفكير والإبداع، والكراهية العامة والمطلقة لمن يخالفهم في الرأي، والغضب من دون عقل، والانعزال عن الناس، وربما لاحقا التحول إلى أحد التنظيمات السياسية، أو الجماعات الفئوية المجرمة.. أسباب التطرف متعددة ومعقدة ومتداخلة، وفي المقدمة منها الجهل بثقافة الدين، وقواعده، وآدابه، وسلوكه، وتبني الفكر الضيق، وإقصاء الأخيار، وتمكين الأشرار، والالتزام الحرفي بالنصوص، والخلط بين الفرائض والنوافل، وبين الفقه والعقيدة، والاهتمام بالفروع الخلافية، والحكم على كل ما لم يرد فيه نص بالبدعة السيئة، وسوء الظن بالناس، والنظر للآخرين من منظار قاتم السواد، والفظاظة والخشونة، والسفاهة والغلظة، والتعامل الدوني، والانفعال والاندفاع، وحب الاستعراض، وعشق الظهور، والفشل في الحياة، والإحباط من الواقع، وعدم القدرة على استيعاب المتناقضات، واختلال التصورات، وعدم الشعور بالمسؤولية، والشعور بالظلم، والفراغ النفسي، وانعزال القدوات، وانعدام التربية المرتكزة على وزن الدنيا بالدين، والبطالة والعطالة، والفقر والعوز، وعدم الانتماء للوطن، أو الإحساس بالوطنية، والقائمة تطول.. أختم بأبرز ما له علاقة وطيدة بمفهوم التطرف وأقصد «الغلو»، الذي أعتبره المفتاح الأول للتطرف، وقد ذمه الخالق، سبحانه وتعالى، ونهى عنه رسوله، صلى الله عليه وسلم؛ فقال سبحانه: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ..}، وقال نبيه عليه الصلاة والسلام: «إياكم والغُلُوَّ في الدينِ، فإِنَّما هلَكَ مَنْ كانَ قبلَكُم بالغُلُوِّ في الدين»، وفي رواية أخرى: «إنما أهلَك مَن كان قبلَكم الغلوُّ في الدين»؛ وإضافة إلى كونه مفتاح التطرف كما ذكرت، فهو أيضا مفتاح تشتت وإفساد المجتمعات، وعدم الانتباه إلى خطورته سبب في تبديع الخلق وتكفيرهم، وفي توتير علاقات الأفراد والمجتمعات، وخروجهم عن الطاعة، وهلاكهم وإهلاكهم؛ وهذا كله يستوجب بناء الجسور بين الناس، واحياء قيمة وفضيلة التنوع، والوقوف يدا واحدة ضد كل من يحتكر الفهم، ومن أقنع نفسه بأنه المالك للحق، ومن يمنع الجدل «بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ»، من المغرضين والمثبطين، سواء كانوا «زرافات»، أو كانوا «وحدانا»، كما يقول أجدادنا «الفِصاح»، ومن سبقهم من «الفصحاء». اللهم، يا كريم، صل على سيد البشر أجمعين، وآله وصحابته الغر الميامين؛ وأتم علينا شهر رمضان بالسعادة وتمام الأجر، وتقبل منا الصيام والقيام، وغفران المعاصي والآثام، واجعل عيدنا مباركا، وأعده على قيادتنا وبلادنا بدوام البركات والاستقرار، وعلى العالم كله باليمن والازدهار، إنك يا ربي سميع مجيب.