لبورخيس محاضرات ست عن الشِعر، ألقاها في جامعة هارفارد عام 1967، ظَلّت مجهولةً أو منسيةً لمدةٍ طويلةٍ، يُظلِلها عنوانٌ كبيرٌ هو (صنعة الشعر)، وهذا العنوان ليس غريبًا في التاريخ العربي القديم؛ حيث أصدرت دار الغرب الإسلامي، كتابًا في التسعينيات الميلادية عنوانه: (صنعة الشعر)؛ ينسِبه مُحقِقُه لأبي سعيد السيرافي. لا تهتم المقالةُ بالخلاف هل صاحب الكتاب هو السيرافي أم غيره من القدماء؟ إنما تثبيت لحظة الاسم، وماذا يعني في زمان تحقيقه لا زمان تأليفه؛ إذ وُجِدَ في التاريخِ العربيّ ذكر لكتابٍ بعنوانِ (صنعة الشعر والبلاغة)، وظلَّ مجهولًا أو منسيًا لمدة أطول من مدة نسيان محاضرات بورخيس، حتى جاء هذا العصر فاختُلِفَ في نسبتِه، فقام محققُه من خلالِ دارِ الغربِ الإسلامي -واختيار اسم الدار ربما له دلالة مباشرة في هذا الموضوع- بنسبته إلى السيرافي، مع حذف لفظةِ (البلاغة) فأينَ ذهبت البلاغة؟ أيكونُ الحذفُ مرتبطا بوعيٍ حديثٍ؟ هل محقق الكتاب أراد للمؤلَف القديم أن يُصبح سلفًا لما جاءت عليه المؤلفات الحديثة وتحديدًا في المنجز الغربي؟ يهم المقالة أنَّ هذا الكتاب ظل مهمشًا ومنسيًا، ثم لما حُقِقَ غُيّر، كمحاضرات بورخيس؛ ونعلم أنَّ بورخيس كان يرى نفسَه هامشيًا في نظر الغرب الشمالي، أو القارة الأمريكية الشمالية، وعلامات تهميشه لنفسه كثيرة ومتفرقة، منها ما ذكره في (هوامش سيرة)، بل إنه تجاوز نفسَه إلى تهميش الأرجنتينيين مقابل الولاياتالمتحدةالأمريكية وشعبها. لكن ما يهمنا أنَّ محاضراته كانت في جامعة أمريكية شمالية، وظلت منسيّة، أو متجاهلة لمدة ثلاثين سنة، وهذا قد يعضد إحساسه بالتهميش. لهذا فإنَّ سؤال: «لِمَ التناسي؟»، مهمّ في كشف تراتبيّةٍ ما، في النظر للصنعةِ الشعريةِ ثم تطويرها، فبورخيس تهمّش في نظر عربِ الغرب، لكنّه تمركز في نظر العرب المُحدَثين، فتهمّش شيءٌ من طريقةِ نظرهم لأدبهم وكيفية صناعته؛ فقد ذكرت أستاذةٌ مصريةٌ لعبدالفتاح كيليطو، «أنَّ بعضَ الروائيين العرب يكتبون وهم يُفكِّرون في مترجم كلامهم، فيعملون على تيسير مهمته، باجتنابهم مثلا للتعابير والإحالات التي قد لا تتلاءم مع أسلوب لغةٍ أخرى». ثم إنَّ بعضهم يَتّصل بالمترجم -قبل انتهاء كتابته- ليعطيه مبلغ الترجمة وتجهيز تكريمٍ لنفسه. ما ذكره بورخيس في هذه المحاضرات ينحو إلى مسارين: مسار في قاعدة النظر، وهذا ينتمي فيه بورخيس للنظريات الغربية في رؤية الشعر. ومسار في قاعدةِ الأسلوب والاستطراد، وهذا ينتمي فيه بورخيس للتأليف العربي، وتحديدًا للجاحظ، ذلك الذي أدركَ أنَّ القارئ يملّ من طول القراءة فسعى لبناء أسلوبٍ جديدٍ صار يسمى الأسلوب الجاحظي وهو نثرية الاستطراد. أقول (نثرية) بناءً على ذلك الزمن وتسمياته، إلا أنَّ النثرَ الفنيَّ العربيَّ قد نراه شعرًا بالمفهوم الحديث من جهةٍ تأويليةٍ ما. ومن تلاحمه مع الشعر القديم نتجت النثيرة أو قصيدة النثر في وعي العربِ الإحيائيين، وليس الغربيين. هذا التهميش الذي شعر به بورخيس يجعل الغريبَ نسيبًا للغريبِ، إلا أنَّ بورخيس من إعجابه بالتراث العربي، بدأ يتعلم اللغةَ العربية وهو على مشارف التسعين، فماذا يعني أن يتعلم العربيةَ قبل موته بقليل؟ الرواية المباشرة تقول «إنه أراد أن يقرأ أصولَ العربية بالعربية» فإذا أضفنا لها أنه مسحور بالشِعر ولغته؛ قد يحيلنا هذا على إرادةٍ بورخيسيّة كي يحصل له ما يرجوه بعد الموت، وهو كشف مفهوم الشعر في ذاته، لكن ما علاقة هذا تحديدا بالعربية فلكلِ لغة شعرها؟ هذا سيعيدني إلى محاضرته صنعة الشعر؛ إذ أشار إلى مفهوم الكتابة في نظر الإغريق على أنها مجرد أداة، تلقفها منهم الآباء الكنسيون جاعلين الكتابَ في يد الجاهل مثل السيف في يد الطفل، لكن الذي غيّر المعادلة -كما تلقفها بورخيس- هو نظرة المسلمين للقرآن على أنه سابق لخلق العالم، ومن ثمَّ جاءت فكرة الكتابة المقدسة في الأرض، لهذا استشهد بمقولة برنارد شو: «أعتقد أنَّ الروح القدس لم يكتب الكتاب المقدس فحسب، وإنما الكتب جميعها». ثم أشار إلى قسوة هذا التعبير، لكنه يُقر بأنَّ جميع الكتب تستحق أن تُقرأ من مبدأ القداسة الأرضية. وهنا ألفتُ الانتباهَ إلى ملمحٍ وضعه محمد دراز في كتابه (النبأ العظيم)، وهو أنَّ القرآنَ سُمي قرآنا؛ لأنه يُقرأ بالألسن، وسُمي كتابًا لأنه مدوّن بالأقلام، وجُمِعَ الاسمان لمسمى واحد؛ لأنه يجب حفظه في الصدور والسطور في آنٍ واحد. هذا الملمح يلتقي مع بورخيس في فكرة الكتابة الأرضية المقدسة وعلاقتها بالمسلمين. إذن كأنَّ محاضرات بورخيس في هارفارد، هي عن صنعةِ الشعر بالمفهوم العربي، وهذا ما صنعتُه هذه المقالة. ففي المحاضرة أشار بورخيس لكيفية معرفة الشعر قائلا: «الشعر ليس شيئا غريبا؛ إنه يترصد عند المنعطف، ويمكن أن يبرز أمامنا في أي لحظة»، ألا نتذكر قول الجمحي: «وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم والصناعات، لا يُعرف بصفةٍ ولا وزن دون المعاينة ممن يبصره»؟ وإذا كان القول البورخيسي يلتقي مع نظرية القارئ الحديثة؛ فإننا نعرف أنَّ لأبي هلال العسكري كتابًا بعنوان (الصناعتين)، وهما الكتابة والشعر، وفيه موازنة الشعر والكتابة بوصفهما صَنعة، أُسمّيها قِرائية قديمة، لأنها تتعلق بمفهوم الإعجاز القرآني، والنظر في أفقه. وها نحن نعود للصَنْعة، وكأنَّها جوهر دائرة الحياة. وإذا كنتُ أحلتُ أسلوبَ بورخيس في صنعةِ الشعر لنثرية الجاحظ، فإنني أُذكِّر أنَّ الجاحظَ أولى مقدمتَه في كتابِ الحيوان للكِتَابِ والكِتَابة، فهل يمكن أن تُسَمّى مقدمةَ الجاحظ، على غرار مقدمة ابن خلدون؟ التفاتة: نُحِبُّ الضبابَ، لا لذاتِه، بل لأننا نُحِبُ الجمال، ومن الجمالِ ضبابية الحياة. وضبابيةُ بورخيس -وهو يتحدّث عن صنعةِ الشعر- ضبابيةٌ سَلّحت البعضَ بضبابٍ حديثٍ، وهم يُعيدون قراءة ما ورثوه من العربِ في الصناعة.