هذا الشيء هو الذي كنا نسعى إليه ولم نكن نستطيع تحقيقه.. كلما تحقق جزء منه طرنا فرحًا لأننا صرنا أقرب إلى الحلم الذي يضم هدفًا كاذبًا قد تكون هناك ضرورة لحلم مستحيل.. ماذا لو فاجأتنا الحرية ذات صباح؟ ألن تضبطنا متلبسين بنسيانها؟، فلقد تعودنا غيابها، حتى إننا سنرتبك في حضورها، ولعلنا نضبط أنفسنا ونحن نتمنى لو أنها لم تجيء، لعل الحنين إليها كان أجل من حضورها، أو أن حضورها سيضيف إلى حياتنا عبء التعامل مع جمالها.. أتخيل من ظل يجر قدمه ويعرج، ويخرج إلى الحياة فيرى الناس جميعًا يعرجون دون كتل حديدية.. يعرج. يكتب شعرًا أعرج، شعرًا تعود أن يلتفت خائفًا مثل طفل يسير وحده في الليل، وحتى حين كان ذلك الشعر يبدو شجاعًا لم يكن أكثر من أن ذلك الطفل الخائف يصفر لكي يداري خوفه، ذلك الشعر الذي لم يتعود الانطلاق بسلاسة وبراءة، كان دائمًا يتعامل مع النفس وعينه على مكان آخر.. أضبط الشعر الذي يتجاهل، والذي يتصدى والذى يخدم، حتى حين كان الشعر يعشق، كان يعشق بتحدٍ، وكأنما يريد أن يرى الآخرون أنه يحب وأنه قادر على الحب، وأنها لم تستطع أن تمنعه من الحب؛ لكنه يعرف في أعماقه أنه ليس في حبه خلوة.. عين عليه دائمًا. لا يستطيع الشعر إلا أن يكون حرًا! ولكن هل كان حرًا فعلاً؟ ما الذي يعرفه الشعر والشاعر عن الحرية ؟ ألم يكن يتعامل مع شيء آخر ويظن أنه الحرية؟، ذلك الذي يسرق فتات الممارسات الصغيرة بسعادة بالغة، والذي كانت تتاح له فرصة أفضل من غيره، كالذي ابتعد نهائيًا عن الموضوعات الحساسة أو الذي هاجر ليعيش بعيدًا، كانت تشوهاته تظهر بشكل مقرف، ومثلما كان يتعمد الابتعاد عن كلمات وتعبيرات وموضوعات، صار الآن يتعمد التعامل معها لكي يتأكد. تسرب إلى حلمنا، إذن، شيء شبيه وليس هي، وهذا الشيء هو الذي كنا نسعى إليه ولم نكن نستطيع تحقيقه.. كلما تحقق جزء منه طرنا فرحًا لأننا صرنا أقرب إلى تحقيق الحلم الذي يضم هدفًا كاذبًا.. أنا لا أعرف الآن كيف أكون حرًا، لم أتعود ذلك ولم أعشه ولم يأت في ميراثي. كنت أريد أن أشرح ذلك لصديقتي، وكنا نجلس في حديقة في بلد آخر وأمامنا على المائدة طعام، نزل عن شجرة قريبة عصفور وحط على المائدة ثم صار يأكل من صحنى ونحن نتفرج عليه، قلت لها: هذه هي المسألة.. هذا عصفور مطمئن، لم يصل إلى الطمأنينة بنفسه، بل توارثها من الجد السبعين حتى صارت لديه شجاعة -أقصد طمأنينة- أن يحط أمامنا ويأكل من صحوننا دون أن تجفله حركات أيدينا. 1991* * كاتب وشاعر ومترجم سوري «1941 - 2004»