كنت أغذ الخطى نحو الخمسين، حين توقفت، والتفت خلفي.. هالني أن رأيتني كلي قد صرت خلفي، رأيتني مجرة تمتد، لا أكاد أبصر أولها.. كل ما تناثر في هذه المجرة هو راشد؛ شموسها، نجومها، كواكبها، نيازكها.. ما من شيء فيها إلا وهو راشد.. غير أنه في أكثرها قد انطفأ إلى الأبد، وبقي ساطعا في بعضها، أما تلك التي كان فيها الأشد سطوعا، فلم تكن سوى وجوه كانت تحفه كالبدور، كانت له الفلك الذي يدور فيه، وجوه حقيقية أولها غصون.. داهمتني الآن تنهيدة عميقة ترتجف حين نطقت اسمها.. كل الأشياء الجميلة كانت تبدأ من ابتسامة غصون وإليها تنتهي.. كيف لي أن أعدد أيامي بمنأى عن غصون؟ كيف أعددها دون أن ألملم ما تناثر من رماد الأغنيات التي تشبهنا، هي كل أيامي التي تأسن فيها الفرح، وكل أيامي التي جرى فيها الفرح مشبوبا كالوعول. أظنني أحتاج إلى خمسين سنة أخرى إن أنا اجترحت فعلا كهذا.. أتمنى أن أفعل، لكن الأمنيات هنا حماقة، والعودة من ذات الطريق خمسين عاما حماقة أخرى، فأي الحماقتين سأختار؟ خياري الوحيد إذن، هو أن أتابع السير باتجاه راشد، الصبي الذي كنته، ابن السادسة الذي اعتاد أن يظل مندهشا أمام الكائنات على الدوام، كما اعتاد أيضا أن يرى الناس بدهشة أقل، ربما كان ذلك بسبب الحب الذي داهمه قبل الأوان، مداهمة المطر للشجيرات الصغيرة، أو الزرع الذي لم يشب عن الطوق بعد، ابتلع الناس الزرع والمطر، وبقي له حبه الصادي لتلك الوجوه، يستمطرها على الدوام. يبدو راشد كمن خرج للتو من أحراش قصية، مسكونا بالمرض والخوف، أشعث، شاحب الوجه، ربما من آثار سوء التغذية.. رغم الإعياء المستبد بملامحه الوادعة، ما تزال عيناه تلتمعان بالكثير من الرغبة في الحياة، والكثير من الأسئلة الحراقة.. ها هو يحمل عذاباته جنبا إلى جنب، مع آمال تخضر قليلا ثم لا تلبث أن تذوي.. ما أكثر ما كان هذا الصبي يؤجل نهاراته، يؤجل أفراحه، يؤجل حتى البكاء، ظل متشبثا بأحلامه المتواضعة، لم يكن يحلم إلا بقليل من الأمان لا أكثر.. وأحيانا، كان يحلم ألا يصبح إلا وقد اندملت جروح قدميه، كان إذا نام، يقضي ليله باكيا بصوت مكبوت، وعيناه مغمضتان؛ إما لجرح نكأه وهو نائم، أو لرؤيا منامية طوحت به من ذرى شاهقة، نحو أودية سحيقة.. ومع ذلك لم يمت راشد، مثله مثل كل العصافير التي طارت في اتجاه العاصفة، فقذفت بها عاليا في الهواء، لكن العاصفة مرت وبقي راشد حيا، وها هو الآن يحدق داخله، يتفقد كل هذا الدمار الذي خلفته العواصف بين جوانحه.. استمر هطول المطر حتى ساعة متأخرة من الليل، فنام كل من في العشة، بعد أن فقدوا الأمل في توقف المطر، انتهزت فرصة نومهم، وبنزق طفل يخلب لبه الغناء، تسللت إلى حيث يخبئ أبي الراديو، وحين أصبح الراديو بجواري على السرير، خفت من سماع الأغاني أثناء المطر، لأني أخاف من البروق، الأغاني تجلب الجن، هكذا يقولون، وستأتي البروق في إثر الجن لتقتلها؛ فالجن تحب الأغاني، وكذلك البروق لا عمل لها سوى مطاردة الجن وقتلها، كلهم يقولون هذا. تحدثت عمتي عن جني يشبه القرد، رأوه مرة وسط المطر، وهو يهرول نحوهم هاربا من البروق، غير عابئ بصراخهم، وهم يكررون عليه: «علي عندنا.. علي عندنا». وقبل أن يصل العشة، قصفته خمسة بروق متتالية، كانوا يرونه بعد كل برق ينهض وقد تناثر شعره، ومع البرق الخامس اختفى.. بعد المطر لم يجدوا سوى شعره في المكان. فتحت الراديو بصوت منخفض، متحاشيا الأغاني، فسمعته يقول: نجحت اليوم مركبة الفضاء السوفيتية فينيرا 7 في الهبوط على كوكب الزهرة، وذلك عند الساعة الخامسة وأربع وثلاثين دقيقة حسب التوقيت العالمي من هذا اليوم، الخامس عشر من ديسمبر الحالي 1970م، لتكون أول مركبة تحط على كوكب الزهرة. الجدير ذكره هنا أن رائد الفضاء الأمريكي نيل آرمسترونغ أول إنسان مشى على سطح القمر، كان ذلك في العشرين من تموز/يوليو من العام الماضي 1969م خلال رحلة مركبة الفضاء الأمريكية أبولو 11، وقد أطلق آرمسترونغ وقتها عبارته الشهيرة «إنها خطوة صغيرة للإنسان، لكنها وثبة عملاقة للبشرية». لم أفهم من كلامه شيئا، كل ما فهمته أن إنسانا قد مشى على القمر، تعجبت بشدة؛ امشهر ما غيره اللي نراه في السما!! تمنيت لو أن أحدا سمع معي ما سمعته، ليشهد أنني لست كاذبا، إن أنا أشرت لهم بيدي إلى القمر وقلت: ترون امشهر هذا اللي في السما، فيه ناس قد مشوا عليه.. لو قلتها أمامهم لأصبحت في القرية كلها كاذب الشام واليمن.. قبل أهل القرية، ما الذي ينجيني من أمي؟ وهي التي لم تتجاوز بعد دهشتها من هذه الحديدة التي تتكلم؛ كلما سمعت الراديو قالت بحسرة: هذا آخر الزمان؛ قرب البعيد، وتأمر العبيد، وتكلم الحديد.. لن يصدقني أحد، أعدت الراديو إلى مكانه وانسربت إلى سريري. كان المطر متقطعا، لكنه لم يكن يتوقف إلا ليعود أكثر غزارة، صوت المطر في الليل يسمع بكل الحواس، فيبعث في الروح رهبة فاتنة، يجعل الدهشة تستيقظ في كل شيء على الأرض. لو لم أكن خائفا لقمت الآن، وسريت إلى غابات امحريقه وامجلل شمال وادي دهوان، لأرى أشجارها وهي تستقبل المطر الليلي بمفاتنها الغارقة، ليتني أشهد الآن انفلات العشق هناك؛ ريح ومطر وذؤابات أشجار سكرى، تحت لحاف من الظلمة السرمدية، أريد أن أسمع أصواتها الخارجة عن السيطرة، تحت وقع الريح والبرد.. لكأني أراها ترقص للمطر رقصة النسائم المسحورة، وهو يدس أسراره في مجاهل غاباتها،.. ما أبعدها من غابات وأحراش، بيني وبينها الآن باتساع الخوف ظلمة ومطر.