«الغبانة» من الهند، و«المزمار» من أفريقيا، و«الفرموزا» من بلاد ما وراء النهر. أما احتفالات «الشعبنة»، فهي موروث صوفي!.. هذا ما يردده علينا أصحاب تقليعة «هوية الحجاز المختطفة» في «تويتر»، وهي نظرية ترتكز على فكرة أن الهوية تصنيف إثني أحادي جامد لا يتغير. وغني عن القول إن هذه الفكرة لا تنسجم مع أي مذهب سوسيولوجي، ولا يتمنطق بها إلا متعصب، بل إنها فكرة تعبر عن أزمة حقيقية. يرى علماء الاجتماع أن ثمة فارقا بين هوية الإنسان وهوية سائر المخلوقات والأشياء، فهوية الحيوان والجمادات مثلا هي نتاج طبيعتها فقط. أما هوية الإنسان، فهي نتاج طبيعته مضافة إليها سيرورة التاريخ الذي يعمل في الذات، مؤديا إلى تغير الوعي والإرادات والأفكار والمصالح والعلاقات. ومع أن الصخب حول الهوية والاختلاف جدل قديم، إلا أنه يمكننا ملاحظة أنه ثمة توافقا على تعريف «الهوية المجتمعية» بأنها مجموعة السمات والخصائص والطباع التي تميز جماعة عن جماعة أخرى، فأي جماعة تتراكم المشتركات بينها عبر التاريخ، فتتشابه في الخصائص والمزاج والمصالح، هي قطعا تنتمي للهوية نفسها. والهوية ليست جامدة ثابتة، بل هي منظومة مفتوحة قابلة للتطور والنمو، واستيعاب ما يستجد عليها من عناصر تترادف معها، فتجعلها أكثر قوة، وتنتقل بها من زمن لآخر. وبالعودة للهوية الحجازية، فإننا نجدها نابعة من هذه الأرض القديمة التي تحركت خلالها هجرات البشر عبر التاريخ، ومرت بها طرق التجارة والحج وأسواق العرب، ومر بها الأنبياء والشعراء والغزاة والرحالة، فامتزجت في تكوين الحجاز عشرات الثقافات، وأصبحت لدى المجتمع الحجازي هوية مطعمة بآلاف الحكايات. كما لا نغفل الدور الكبير للإسلام الذي كان الحجاز حيزه ومنطلقه، حيث هيأ الدين الإسلامي ظروف جذب واندماج للقادمين إلى أرض الحجاز، فمهما تكن انتماءاتهم الأولى، فالحجاز وطنهم الروحي الأخير، وأرضهم الموعودة، حيث كان المسلمون يأتون للسكنى والجوار، وينتظمون في عقد المجتمع الحجازي، فيضيفون له مزيدا من الخبرات والإنجازات والأبناء. وجاءت الدولة السعودية العظيمة، فكانت سابقة للعصر في احتواء الناس وشمولهم دون تمييز أو تحيز لعرق أو طائفة، فاجتمعنا في الهوية الوطنية الواحد. وفي رأيي أن أهم استحقاقاتها علينا أن نحترم كل مكون في مجتمعنا، ونعي أن تنوعنا هو مصدر قوة وسبب كبير للابتهاج، ونعلم أجيالنا أن الأفكار الإقصائية رجس من عمل الشيطان.