ذكريات العيد ونكهته الخاصة التي يفتقدها الإنسان كلما تقدم في العمر، وكلما انتقل من مرحلة إلى أخرى، كانت خير ملهم للشعراء والأدباء وأصحاب الكلمة بسرائها وضرائها، هذه الذكريات وعبقها هي ما كان فقدانه ملموسا لدى كثير من الناس، في أكثر من جيل، وأكثر من ثقافة في وطننا العربي والإسلامي. ومن أولئك الناس الشعراء والأدباء الذين ألمحوا وصرحوا أيضا، بأن العيد لم يعد مؤثرا في وجدانهم وعواطفهم وأمزجتهم أحيانا. الأمر الذي يعيد إلينا موقف المتنبي الشعري الشهير من هذه المناسبة، وإن كان على وجوه وأشكال، ولغة مختلفة؛ فمنهم من أرجع موقفه الفاتر من العيد إلى تمدن المجتمع، وفقدانه الكثير من قيمه الموروثة وخصائصه الثقافية الأصيلة التي تميزه، والعولمة ومظاهرها، كجزء من التمدن، أو ضمن سياقه الطبيعي، وثالث ذهب إلى أن المجتمع فقد قدرته على الفرح، في ظل الأحداث المتلاحقة التي تسيطر على العالم اليوم. "الوطن" رصدت ذكريات العيد لدى بعض المثقفين والأدباء، الذين أجمعوا تقريبا على أن فضاء "المدينة" الواسع، ليس كذلك في مساحة الإحساس بالعيد. إذ يقول الدكتور محمد بن مريسي الحارثي "نحن نحمل ذكريات جيل مر بتحولات اجتماعية عنيفة، بدأناها من حياة القرية المنغلقة إلى حياة المدينة الفضائية المنفتحة، وكانت رحلة طويلة بلغت 60 عاما، وأشار مريسي إلى أن العيد كان له طعم وشغف وأحاسيس وشعور، وقال: لقد أشغلتنا المدينة عن ذواتنا، فلم نعد نشعر بالعيد أو يثير ذكرياتنا إلا ساعة الإعلان عنه. وأضاف: لقد تطبعنا بطابع المدينة الواسعة فضاقت دائرة الفرح في العيد، حتى أصبحت رسالة الجوال "عيد مبارك" هي رابط التواصل بيننا وأقرب الأقربين، "وأخشى أن يأتي يوم نفقدها هي الأخرى". ويرى مريسي أن العيد من المناسبات التي كانت تثير صاحب الكلمة وتحرك الوجدان وقال "إننا نتلهف اليوم لقصيدة أو كلمة تتحدث عن اليتيم في العيد". وعما بقي في ذاكرته عن العيد قال القاص أحمد الدويحي "في بالي الآن في عصر التقنية والسرعة والقرية الكونية الواحدة، بطاقة عبارة عن أغنية قديمة جداً، كنت أسمعها في (حي العود) المجاور لسور المقبرة في بيت طيني".. وأضاف: أتذكر كلمات تلك الأغنية التي كانت تخترق الجدران المتآكلة، أتذكر ذلك الصوت الشجي الذي بقي وشماً في الذاكرة، ولكن للأسف فقد اختلفت مع صديقي الشاعر الجميل عبد الرحمن موكلي حول المرحلة والفنان، والآن ألوذ بما بقي من طيف لعله يكون بسمة". وعن عدم تأثير العيد في مشاعر الناس وخصوصا الأدباء والشعراء قال الدويحي: "لابد للفنان أن يختلج اللحظة غير التقليدية ولو كانت الأعياد في مضمونها تراثية وتقليدية وفلكلورية لكانت مؤثرة". وذهب الدويحي إلى أن التجديد مهم لأن الزمن لا يقف في محطة واحدة، قائلا "قد يكون هذا الزمن مثقلا جيله بهموم واهتمامات شاسعة، وكتب التراث العربي مليئة بمفردات العيد، لكنها حتماً ترتبط بأحداث ذاتية وشعبية". وأضاف: أن التعبير عن العيد اختلفت وسائله وكثرت وتنوعت، وقال: إن العدسة اليوم صارت أخطر من الكلمة". من جهته، قال الشاعر والإعلامي عبد العزيز الشريف: "إن ذاكرة العيد محملة بمواقف وذكريات كثيرة، تخيم عليها أجواء القرى الحالمات، ووجوه الصبايا والطفولة البريئة والمدرجات الخضراء يوم كانت القرى تشرق كالعيد تماما". وعن بهجة العيد، قال الشريف: كانت طقوس الفرح جماعية، الكل يشارك في صنع ألوانه، مشيرا إلى أن الزيارات في عيد القرية لا تحتاج إلى مواعيد واتصالات. وتابع الشريف حديثه العاطفي المفعم بالحنين إلى الطفولة والماضي: كانت نفوس الناس طاهرة بريئة نقية محملة بالبياض، تبدأ عيدها بأول بيت ولا تنهيه إلا عند آخر بيت. وأضاف: كان الجميع في ذلك اليوم مشرقا فرحا يعرف بعضه البعض، واليوم أخذت هذه المظاهر في التلاشي والغياب، في ظل عالم متغير فرض إيقاعه على الحياة فجعلها سريعة لاهثة لا يلحق المرء فيها نفسه ليعيد ترتيبها. ويرى الشريف، أن فرحة العيد لابد أن تخبو في "زمن المدن الصامتة ذات الملامح الغريبة والمتقلبة بين لحظة وأخرى". وعن عدم تأثير العيد في حالة المبدع قال "إن تنوع وسائل الاتصال والتواصل الحديثة ربما تكون هي سبب عدم ظهور الإبداع بالشكل الذي كان يحضر به سابقا في مواضيع العيد وأثره. أما القاص ضيف فهد فقال "أحببت المتنبي كله، ولكن، ولأن لكل شيء استثناء، استثنيت من محبتي لكل ديوانه هذا البيت: عيد بأية حال عدت يا عيد ... بما مضى أم لأمر فيك تجديد"، مؤكدا أن العيد لا يحتاج أن يطرح عليه هذا السؤال، وقال: "دائما ما يكون العيد بالنسبة لي عائدا بالفرح الجديد، الصادق، والطفولي، ذلك الفرح الذي لا يفسده التكرار، ولا يُتلفه التعود، لم أستطع أن أكبر، فيما كبرت، على العيد، لا على انتظاره، ولا على الإنصات إلى موعد إعلانه، ولا على أغانيه، ولا على ملابسه". وعما تحمل ذاكرته عن العيد ؛ يرى فهد أن هذا سؤال لا يمكن طرحه على نوعه من البشر الذين أسماهم ب(العيديين)، وقال: "إن الذاكرة- والتذكر- تنطوي على النسيان وتحتمل العودة، وبالنسبة لي كل عيد هو عيد لأول مرة، يصاحبه وعي جديد وطقوس جديدة، وابتهاج جديد لا يتكرر". وأشار ضيف فهد، فيما يخص غياب العيد عن الإنتاج الإبداعي، قائلا: إن هذا أمر أجده متناسقا مع غياب أمور كثيرة، إذ كونك مبدعا تنهض بمسؤولية تعميم تجربتك الخاصة، وتخلق من خلالها نصا إبداعيا، تحتاج أول ما تحتاج إلى أن يكون المجتمع محتفظا ومتواطئا معك على نفس البهجة، وهذا ما يفتقده المجتمع في سواده الأعظم. ويرى فهد، أنه لم يتبق الكثير من المحتفين بالعيد مع الأسف، و"أن فرحة الناس – فيما لو حدثت – قشرة فقط لكآبة دفينة، مبعثها كل هذه الأحداث السيئة التي تسيطر هذه الأيام. كما أوضح أن المبدع "لا يستطيع أن يغرد كاذبا خارج السرب"، وقال: إنه لا يمكن لنا في الوقت نفسه نكران أنه ومع كل هذا الغياب للنص الإبداعي والفني عن إشراقات الفرح العيدية الموسمية، ما زال يوجد النص الغنائي الذي استمر من خلال قديمه المتجدد، يعطي للعيد ذاكرته وفرحته الاجتماعية". وأضاف: أنه لا يمكن أن يمر عيد دون أن نتذكر أغاني للمرحوم طلال مداح أو فنان العرب محمد عبده ؛ كذلك أظن أن المبدع الشعبي (القصيدة الشعبية) لا زالت تعبر أحيانا عن شكل من أشكال الابتهاج بالعيد.
"كبير كبر امعيد".. أمنيات عتيقة في الوجدان الجازاني جازان: موسى محرق "كبير كبر امعيد".. عبارة يرددها الجازانيون صبيحة يوم العيد، لحظة استقبال الأهل لأبنائهم بعد عودتهم من صلاة العيد، حتى باتت تطرب نفوس الجازانيين لسماعها، ومازالت حية إلى يومنا هذا، حيث لا تكاد تدخل البيت الجازاني يوم العيد إلا وتستوقفك هذه العبارة كثيرا، بكل ما تحمله من غموض وعمق ودلالات. الباحث أحمد بن إبراهيم العقيلي أوضح أن "كبير كبر امعيد، أو كبير كبر العيد" تقال على اختلاف اللهجة بين شمال منطقة جازان وجنوبها، مشيرا إلى أنهم كانوا يسمعونها من كبار السن تقال للصغار في يوم العيد، وتعني الدعاء للطفل بأن يكبر بحجم كبر العيد، ويقصدون بذلك الدلالة المعنوية للكبر. أما الشاعر أحمد السيد عطيف، فأكد من جهته أن هذه الجملة التي صاغها الوجدان الشعبي في لحظة إدراك للمعاني الكبرى للعيد بأبعاده الدينية والاجتماعية والإنسانية تعد من أعمق الجمل الشعرية حيث تستقر باطمئنان وحنان في وجدان الفتيان، وأردف بالقول لا نبالغ إذا قلنا إن العيد يظل ناقصا إن غابت هذه الجملة عن صباحات ومساءات العيد. وأضاف السيد: أن هذه الجملة حالة ووقع خاص حين تلقيها الأم على أبنائها. وعن معناها بين السيد أنها تعني الدعاء بأن يصبح الفتى كبيرا في عمره وفي فعله، لافتا إلى أن هذه العبارة تنتهي حين يتعدى الفتى مرحلة الصبا ويصبح شابا حيث يسمع مكانها جملة أخرى هي "من العايدين والفايزين وبنت حلال", وهي جملة تحمل دعوة له بإتمام نصف دينه وتوجيها له في اللحظة ذاتها بأن يسارع، ثم إذا تزوج سيمسع دعوة أخرى هي"الذرية الصالحة"، فإذا حصل على الذرية دعي له بالحج فيقال له "حجة وتمدينة" فإذا فعل دعي له ب"الله يعقل عليك بعيالك وسمعك ونظرك" ويختمونها بالدعوة بحسن الخاتمة. من جانبه قال أحمد حافظ "منذ طفولتنا ونحن نسمع هذه العبارة من آبائنا وأمهاتنا، مضيفا أنها قديمة قدم الزمن فلا نعرف تاريخا لبداية تدوالها بين الناس في الأعياد" مشيرا إلى أن هناك جملا أخرى تشتهر بها منطقة جازان لكن هذه الجملة تبقى الأقرب لروح العيد وبهجته والأمنيات التي تنطلق مع سطوع شمسه.