المحكمة الاتحادية لم تقفز من المريخ، بل جاءت ضمن رزمة العملية السياسية التي بنيت على أساس المحاصصة الطائفية والقومية، ومنذ تشكيل مجلس الحكم على يد الحاكم المدني للاحتلال بول بريمر. قرار المحكمة الاتحادية بتفسير المادة 70 من الدستور بانتخاب رئيس الجمهورية بثلثي أعضاء مجلس النواب وليس «الحضور» هو الرصاصة في تبديد الأوهام لنهاية نظام المحاصصة في العراق ولو بشكل نسبي. وإن الحديث عن تشكيل حكومة أغلبية وبغض النظر عن نسبة الشوائب في وطنيتها، وبالمعنى القانوني والسياسي فهو محض هراء على الأقل في هذه المرحلة السياسية، ولن يتعدى أي تشكيل حكومة أغلبية، التي يطالب بها الصدر أكثر من شعار لتحجيم القوى الخاسرة في البيت الطائفي الشيعي في الانتخابات. وسواءً أكانت الحكومة المراد تشكيلها هي أغلبية أم لا فلن تكون مطعمة بغير نكهة توافقية- ومحاصصاتية سواءً أجاءت تحت مظلة قناصي مليشيات الحرس الثوري الإيراني، أو بحراب المارينز الأمريكي وأهازيج الجامعة العربية والأمة العربية. وبقدر أن المحكمة الاتحادية أنقذت نظام المحاصصة بشكله المطلق، فبنفس القدر أنقذت البيت الشيعي وحصة الخاسرين فيه من المدعومين من ملالي قم-طهران في المشهد السياسي، وأنقذت العملية السياسية برمتها وحسمت حصة «المكون الأكبر» التي يطالب بها عمار الحكيم صاحب شعارات الوطنية الطنانة، وبمجرد خروجه من الانتخابات الأخيرة بخفي حنين عاد ليطالب بحصة المكون الأكبر أو حصة البيت الشيعي، والعودة إلى الطائفية السياسية للحفاظ على نفوذه وامتيازاته المالية. ليست هي المرة الأولى التي تنقذ فيها المحكمة الاتحادية نظام المحاصصة السياسية في العراق وحصة المكون الأكبر أو البيت الشيعي. فقد أفتت من قبل في إنقاذ كتلة دولة القانون التي حازت على 89 مقعدا في انتخابات عام 2010، وألحقت هزيمة نكراء بكتلة إياد علاوي غير الطائفية التي حصدت 19 مقعدا في الانتخابات، ليوحد صفوف البيت الشيعي تحت عنوان الكتلة الأكبر، وهو الاسم الحركي للمكون الطائفي الأكبر في البرلمان. وهذه المرة تدخلت أيضا وابتكرت فتوى سياسية جديدة بانتخاب ثلثي أعضاء مجلس النواب وليس الحضور لرئيس الجمهورية، وبهذا فلت تحالف الميليشيات الخاسر الأكبر في الانتخابات من عنق الزجاجة، والذي جاء تحت عنوان الإطار التنسيقي. قرار المحكمة الاتحادية جاء سواء متزامنا أو متناغما قبل أيام قليلة من زيارة قائد فيلق القدس إسماعيل قاآني إلى العراق للقاء مقتدى الصدر، وهو محاولة لثني الصدر بالمضي قدما في تحجيم إخوته الأعداء في البيت الشيعي. وكانت تغريدة الصدر (لا شرقية..لا غربية) بمثابة إغلاق الباب خلف القاآني بصوت قوي عندما غادر مقر الصدر. ويستمد الصدر قوته في مقاومة ضغوط إيران لتنحية منافسيه وتحت عنوان تشكيل حكومة أغلبية وطنية من تنامي السخط الواسع ضد سياسات الجمهورية الإسلامية في العراق وأدواتها، وإلى تراجع نفوذها السياسي بعد هزيمة حلفائها في الانتخابات الأخيرة. وفي الوقت نفسه يحاول الصدر بشكل حثيث ملء الفراغ الذي تركه التيار القومي العروبي والقومي المحلي الوطني منذ هزيمته على يد الاحتلال، والظهور بحامي سيادة العراق واستقلاله على غرار نصر الله بحماية لبنان وفلسطين بوجه «العدو الصهيوني». إلا أن الأول في وجه إيران التي تدعم نصر الله في حين الثاني بوجه إسرائيل التي تظهر قوة إقليمية منافسة لإيران في المنطقة، والجامع بينهما هو العمامة السوداء وحراب مليشياتهم. إلا أن التناقض الذي يخنق فيه شعار الصدر (لا شرقية..لا غربية) ويغرد به بين الحين والآخر، ويعني التلويح بعدم الرضوخ للنفوذ الإيراني لدغدغة مشاعر التيار القومي-الوطني ونزولا عند سخط الشارع ضد النفوذ الإيراني وميليشياته، هو أن الشعار المذكور هو شعار الخميني والجمهورية الإسلامية الإيرانية إبان الالتفاف على الثورة الإيرانية وإجهاضها بعد عام 1979، وقد مزقت جماهير العراق صور رموزها وحرقت مقرات الأحزاب الإسلامية التي كانت تزين جدرانها بها في انتفاضة أكتوبر. ولا يقف التناقض عند ذلك بل إن الشق الثاني من الشعار وهو (لا غربية) لا يرد على سؤال أو يحاول التعمية أو التغاضي عن الجنسية التي تنتمي إليه المؤسسات المالية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، والتي فرضت الورقة البيضاء عبر ممثلتها حكومة الكاظمي، وقد وافقت كتلة الصدر دون أي قيد أو شرط عليها، وكان أولها تخفيض العملة المحلية لتدفع الطبقة العاملة والجموع الغفيرة من المحرومين والكادحين ثمن تلك الورقة! على العموم ما نريد أن نقوله أن جميع فذلكات القوى السياسية الجاثمة على صدر الجماهير، وسطحية تحليلات أقلامها المأجورة لا تعدو أكثر من أبواق دعاية رخيصة لمرؤوسيهم، وليس بمقدور أي واحد منهم إقناع الإنسان البسيط بأنهم فقدوا صلاحيتهم وأصبحوا خارج الزمن. وكل الشعارات التي يطلقونها أو يهددون بها اللجوء إلى خيار المعارضة أو خيار مقاطعة العملية السياسية ليست أكثر من أوراق ضغط لا تضعف ولا تسمن أحدا، فالكل يدرك أن أي الخيارين لن يعوضهم أبدا ما سيفقدونه من نفوذ امتيازات إذا أصبحوا خارج الحكومة الجديدة. وإن كل دقيقة خارج الحكومة تعني تقصير أعمارهم السياسية، وهذا هو سر التكالب على تشكيل الحكومة وحصة المكون الأكبر أو الكتلة الأكبر. وأكثر ما يدعي الاستهجان في المشهد السياسي الدرامي العراقي هو التطبيل والتزمير والتهويل من (الفراغ الدستوري) الذي يعيشه العراق، وكأن العراق الذي كان يعيش حياة مترفة بالدستور، انخفضت فيه معدلات الفقر والبطالة والعوز وتوفرت الخدمات وعم الأمن والأمان، وانحسر الظلم الواقع على المرأة وازدهر التعليم والصحة. أما في الفراغ الدستوري فستتحول حياة الجماهير إلى جحيم، إنه حقا ضرب من الكوميديا المأساوية. فكل القوى المشاركة اليوم في العملية السياسية دون استثناء، حاولوا إفراغ العراق من مواطنيه عبر عمليات القتل والتصفيات الجسدية والاغتيالات والاختطاف والتهجير والإفقار، ولم يهتز لهم جفن بخلق فراغ إنساني وبشري في العراق، فما بالك عن مبالاتهم للفراغ الدستوري. وأخيرا لا خوف من الفراغات أيا كانت سواء دستورية أو أمنية أو سياسية فهناك من يحمي العملية السياسية واسمه المحكمة الاتحادية، وهي تتدخل في إنقاذ أية فجوة تحدث هنا وهناك في العملية السياسية، وتحرسها عيون خفية وهي عيون المرجعية، فكل شيء من أجل إنقاذ حصة المكون الأكبر. وهنا نؤكد من جديد أن ما نحتاجه هو التغيير الجذري عبر إنهاء عمر العملية السياسية، إذا أردنا الحديث عن الأمن والأمان والرفاه.