ليس كل أمور الأزمة السورية تسير في الاتجاه الخطأ؛ فقد كانت بعض التطورات تبعث على الأمل وبشكل مفاجئ، لكن هناك أكثر مما يكفي من النزعات المنذرة بالشؤم مثل النزعات التالية: نظامٌ يتحول على ما يبدو إلى ميليشيا هائلة القوة تنخرط في قتال يائس من أجل البقاء؛ وطائفة علوية تشعر بحصار متزايد ومقتنعة بأن مصيرها مرتبط بشكل لا فكاك منه بمصير النظام؛ ومعارضة مهددة بأشكال من التطرف. كل هذه العناصر معاً يمكن أن تكون نذيراً لحرب أهلية طويلة ومدمرة. يقول تقرير نشرته "مجموعة الأزمات الدولية" في أغسطس الحالي إن من شبه المؤكد أن النظام لن يغيِّر أساليبه، وبالتالي فإن العبء يقع على عاتق المعارضة لتقوم بمعالجة ظواهر العنف الانتقامي، وأعمال القتل الطائفية والأصولية التي تزحف في صفوفها؛ وإعادة النظر بالهدف الذي وضعته لنفسها والمتمثل في استئصال كامل للنظام، والتركيز بدلاً من ذلك على إعادة تأهيل المؤسسات القائمة؛ وإعادة تقييم العلاقات مع الطائفة العلوية بشكل معمق؛ والخروج بمقترحات متطلعة إلى المستقبل حول العدالة الانتقالية، والمساءلة والعفو. بداية بالأهم، فقد أصبحت سورية بالفعل مسرحاً للتدخل الخارجي، إلا أن التدخل كان أكثر فاعلية في إدامة القتال وليس في إنهائه. سعى المبعوث المشترك للأمم المتحدة والجامعة العربية كوفي عنان للتوسط، إلا أن السوريين وغير السوريين على حدٍ سواء دعموه لأسباب متعارضة وبطريقة تخدم مصالحهم الخاصة. ولأن نجاح المهمة كان يعتمد على إيجاد أرضية وسطية عندما كانت معظم الأطراف تتحرق رغبة بتوجيه ضربة قاضية لمهمته. إلا أن المواقف الدولية قد تتغيَّر: حدوث مجزرة هائلة على نحو لافت، أو استعمال النظام للأسلحة الكيميائية أو فقدان سيطرته عليها، وهو أمر يمكن أن يتسبب في عمل عسكري غربي؛ يمكن لتركيا أو الأردن، اللتين ترعبهما معدلات تدفق اللاجئين، أن يقيما ملاذاً آمناً على الأراضي السورية؛ وفي حالة التدخل الغربي، يمكن لإيران أو حزب الله أن يردا نيابة عن النظام. الحد الأدنى في هذه المرحلة هو أن الصراع سيستمر وسيخضع لتأثير أطراف خارجية، لكن هذه الأطراف لن تحدد نهاية الصراع؛ فهذا الدور الذي لا يمكن أن يُحسد أحد عليه سيلعبه السوريون أنفسهم. مرَّ الصراع في سورية بعدة مراحل: من التنازلات السياسية التي قدمها النظام؛ وصولاً إلى ما يُسمى بالحل الأمني (والذي، في سعيه لإجبار مجموعات كاملة من السكان على الاستسلام، أثار حيوية المعارضة ودفعها نحو المقاومة المسلحة)؛ وأخيراً، إلى ما يسمى بالحل العسكري (سياسة الأرض المحروقة والتدمير الشامل والنهب الذي حوّل ما كان يُعتبر جيشاً وطنياً إلى قوة احتلال تواجه الاستياء والإدانة على نطاق واسع). لقد تطورت الديناميكيات الاجتماعية أيضاً إلى وضع تجلى فيه الجيِّد والسيئ والبشع على حد سواء. حيث عبأ المجتمع المدني النشط والشجاع والمقاوم شبكات للمساعدة وأبقى تحت السيطرة بعض أسوأ أشكال العنف التي يمكن أن تلجأ إليها أي معارضة مسلحة تعمل في بيئة موبوءة. أخفقت الأعمال الوحشية للنظام في قمع الاحتجاجات الشعبية، وفي واقع الحال جاء رد النظام بمثابة اللقاح لها. لقد فوجئت المعارضة السورية نفسها أكثر من أي طرف آخر بإعادة اكتشافها لإحساس واسع بالتضامن والكرامة والافتخار على الصعيدين المحلي والوطني. أما الجانب السيئ الذي يشمل خصائص مثل الطائفية، والأصولية، والمقاتلين الجهاديين أو الأجانب؛ وهو ما كان محتوماً على أي معركة طويلة أن تجتذبه وتُظهره، فقد جاء أداء النظام ليفاقمه. لقد تبنَّت عدة مجموعات معارضة خطاباً وسلوكاً أصولياً على نحو متزايد، وهو مسار يعكس التحول المهلك والأكثر طائفية للصراع؛ وفقدان الثقة الشعبية بالغرب. كل هذا يمكن أن يكون أسوأ، وكان يُتوقع أن يكون أسوأ. منذ بداية الأزمة، اتسعت الفجوة بين المؤيدين للنظام والمؤيدين للمعارضة بشكل شاسع. كل طرف يُقصي الآخر ويقاطعه ويقابله فقط في المعركة. بين المتمردين المسلحين، والنشطاء والمحتجين، تعود التحاملات العميقة والقديمة ضد العلويين (وضد الشيعة) إلى الظهور بشكل أكثر حدة بمرور الوقت؛ حيث تُعتَبر أساليب الطائفة العلوية أساليب غريبة، وعاداتها بدائية ووجودها غير طبيعي. وعلى نحو مماثل، فعند استحضار مصير أعدائهم، فإنه حتى العلويون العاديون يمكن أن يلجؤوا إلى استعمال لغة تبعث القشعريرة في الجسد. يسترجع العلويون بشكل عام قروناً من التمييز والاضطهاد على أيدي حُكام ونخب مدنية بعيدين عنهم، والذين يتحدرون غالباً من الأغلبية السُنية. وسواء شاركوا في الأعمال الوحشية للنظام أو لا فإنهم يتوقعون أن يدفعوا ثمناً باهظاً إذا تمت الإطاحة بالرئيس بشار الأسد، حيث سيتم القضاء بشكل كامل على الأجهزة الأمنية القائمة؛ ومن المحتمل أن يتم حظر حزب البعث؛ ومن المحتمل أن تجري عمليات تطهير في الوظائف الإدارية. أما العلويون فهم قلقون من أنهم سيتعرضون لعملية استئصال جماعي. من بين جميع التغييرات الجارية، قد يكون أكثرها أهمية والأقل فهماً هو الحالة التي أصبح عليها النظام. من شبه المؤكد أن النظام الذي كان موجوداً في بداية الصراع ما كان ليتحمل عملية قتل مسؤوليه الكبار في قلب معقله التقليدي؛ ومعارك الشوارع في دمشق، وحلب وسلسلة من البلدات الأخرى؛ وخسارة معابر حدودية هامة مع تركيا والعراق؛ وحدوث كل ذلك وسط حالة من الدمار الاقتصادي شبه الكامل والمقاطعة الدبلوماسية. إن قدرة النظام، بعد عام ونصف، ليس على تحمل تلك الضربات فحسب، بل على الرد بقوة وحيوية تبعث برسالة جديرة بالتفكير. مع تفكك العمود الفقري السياسي للنظام، فإنه تقلّص إلى الجهاز القمعي الموجود داخله، في حين يتحول هذا الجهاز تدريجياً إلى كيان أشبه بالميليشيا منه بالجيش من حيث التركيب والروح القتالية. إن مكاسب المعارضة تُرعب العلويين، الذين يقفون بشكل أكثر ثباتاً إلى جانب النظام. يمكن تجاهل خسارة النظام لبعض المناطق مقابل التركيز على المناطق الجغرافية "المفيدة". أدت العقوبات إلى نشوء اقتصاد عنف، حيث عمليات السلب والنهب والتهريب تضمن الاكتفاء الذاتي ولا تخضع لتأثير العقوبات. لهذه التحولات المتعددة تداعيات عملية: أولاً، ومن وجهة نظر عسكرية، فقد يصبح أكثر وضوحاً مع مرور الوقت أن حصيلة الصراع ستكون أكثر فوضوية مما توقعه أيٌ من الطرفين. لن ينجح النظام في قمع الجماعات المسلحة؛ بل على العكس فإن ممارساته الشرسة ضمنت انتساب مقاتلين جدد مستعدين للقتال إلى جانب المعارضة بأي ثمن. وبالمقابل، يبدو أن شريحة واسعة من الطائفة العلوية تشعر بأن لا خيار لديها سوى أن تَقتل أو تُقتل. ثانياً، لا يمكن توقع شيء أكثر من نظام لم يكن بطبيعته دولة مؤسساتية، ولم يعُد كياناً سياسياً حقيقياً، في حين لم يعُد في موقع يمكنه المساومة، أو الاستجابة للضغوط أو الإغراءات أو تقديم حل قابل للحياة. وهذا يعني أن مجموعة الإجراءات الدولية التقليدية، من الانتقادات العلنية إلى الإدانة، ومن التهديدات إلى العقوبات، قد لا تنجح. ثالثاً، على المعارضة أن تعيد النظر بالتعامل مع أنصار النظام بشكل عام والعلويين بشكل خاص، من حيث الطريقة التي تتصرف وتتحدث وتخطط بها. لقد دأبت المعارضة على التقليل من أهمية الخصائص المنفّرة فيها: إنها تحمّل مسؤولية تصاعد النزعة الطائفية لتكتيكات النظام المسببة للانقسامات؛ وتتجاهل اللهجة الدينية، إن لم تكن الأصولية في صفوفها، بوصفها آثاراً جانبية للأزمة يمكن تصحيحها؛ وتعزو الجرائم المزعومة للجماعات المسلحة لمجرد انعدام الانضباط، وتتجاهل الوجود الواضح بشكل متزايد للجهاديين والمقاتلين الأجانب. هناك أسباب منطقية لظهور هذه النزاعات؛ لكن ما من تبرير للتقليل من شأنها. إن الإخفاق في إيجاد معالجة جادة الآن يمكن أن يستحوذ على مستقبل جميع السوريين لاحقاً. كما أن الخطاب المستعمل مهم، وكذلك الخطط الانتقالية. عندما تقول المعارضة إنها ستطيح بالنظام، فإن ما يسمعه العلويون هو أن مصدر دخلهم ووظائفهم وحمايتهم الجسدية ستتم إزالته. عندما تستحضر المعارضة إزالة النظام وجميع مؤسساته، فإن العلويين يسمعون في ذلك إعادتهم إلى مواطنين من الدرجة الثانية. وعندما تتحدث المعارضة عن العدالة والمساءلة يسمع العلويون تهديداً بالانتقام الجماعي. وفي جميع هذه القضايا، على المعارضة أن تنخرط في محاولات مكثفة لتوضيح معانيها، وتطمين الأقليات وإعادة تقييم نطاق التغييرات التي تعتزم إحداثها وسرعتها. بالنسبة للسوريين الذين تحملوا 17 شهراً من القمع على أيدي نظام شرس، فإن هذه الأسئلة قد تبدو لا مبالية وغير ذات صلة ومؤذية لمشاعرهم ربما، إلا أن طرح هذه الأسئلة ضروري إذا أُريد للمرحلة الانتقالية التي يكافحون من أجلها أن تستحق التضحيات التي بذلوها للوصول إليها.