إن شهر رمضان مدرسة إيمانية تربوية للمسلم ليروض نفسه على السماحة والحلم وكظم الغيظ وضبط الأعصاب في المواقف الاستفزازية، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم :"والصوم جُنَّة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم". والحكمة تتجلَّى في أن يتعامل الصائم مع الموقف الغضبي بدافع الإيمان وأن يخضع تلك النزوة المثيرة للغضب إلى الصبر والحلم بحيث تصبح قوة حلمه منقادة لقوة إيمانه وصبره ويقينه فيؤثر التسامح والصفح على الانتقام والفحش في القول أو الفعل وقد قيل: ولربما ابتسم الكريم من الأذى وفؤاده من غيظه يتأوَّه غير أن الحلم لا يعارض الأخذ بالحزم وعدم قبول الإهانة فإذا كان الحلم يعني سكون النفس وعدم تهيجها للمكروه فإن من الحزم عدم قبول لؤم اللئيم أو التساهل في دفع أذاه على حد قول الشاعر: إذا قيل رفقاً قل فللحلم موضع وحلم الفتى في غير موضعه جهلُ وهنا يبرز الفرق بين الحلم الذي هو الإغضاء عن جهل الجاهل وتطاول السفيه بحيث يزيد ذلك الحلم صاحبه رفعة ومهابة وبين قبول الإهانة والمذلة في احتمال المكروه الذي يذهب بالكرامة كما قيل: عجبوا لحلمك أن تحوَّل سطوةً وزلال خلقك كيف عاد مكدَّرا لا تعجبوا من رقَّة وقساوةٍ فالنار تُقدح من قضيب أخضرا ومن ثمرات الحلم أنه خلق الأنبياء وأدب النبلاء ودأب الفضلاء وأنه يورث سلامة الصدر وراحة الجسد واجتلاب الحمد. وقد قيل إنما العلم بالتعلُّم والحلم بالتحلُّم. وبالحلم يحفظ المسلم على نفسه هيبتها وكرامتها لأنه يرفعها عن مجاراة السفهاء الذين يستمرئون المهاترات والإقذاع في الأقوال والأفعال وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأشجِّ عبدالقيس إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله الحلم والأناة. وكان عروة بن الزبير رضي الله عنهما إذا أسرع إليه أحد بشتم أو قول سوء قال: إني أتركك رفعاً لنفسي. وخرج عمر بن عبدالعزيز رحمه الله ليلاً إلى المسجد ومعه حارس فمرَّا برجل نائم في المسجد فعثر به عمر فاستيقظ الرجل ولم يعرفه وقال لعمر: أمجنون أنت؟! فقال عمر: لا، فهمَّ الحارس بالرجل، فنهاه عمر، وقال: إنما سألني أمجنون أنا؟! فقلت له: لا. وشتم رجل حليم العرب الأحنف بن قيس وجعل يتبعه حتى بلغ بيته والأحنف ساكت لم يرد عليه ثم قال له وهو يهم بدخول البيت: يا هذا! إن كان بقي في نفسك شيء فهاته! وانصرفْ حتى لا يسمعك بعض سفهائنا فتلقى ما تكره! وقال أبو العتاهية: عذيري في الإنسان ما إن جفوته صفا لي ولا إن صرت طوع يديه وإني لمشتاق إلى ظل صاحبٍ يرقُّ ويصفو إن كدرت عليه ويقال إن المأمون لما سمع هذين البيتين قال لمن حوله خذوا مني الخلافة وأعطوني هذا الصاحب! فما أجمل الحلم في موضعه وما أكرم الحليم إذا تحلَّى بهذا الخلق الكريم في موقف الغضب فإنه لا يزيده إلا رفعة وسمواً. ويا أيها الصائمون: هذا هو الحلم وتلك أبرز معالمه وثمراته.. وهو شهر رمضان الذي يضفي علينا السكينة.. والطمأنينة ويدعونا إلى التحلي بالحلم والسماحة والرفق والرحمة.. أفلا يكون لنا نصيب من ذلك الخلق العظيم في هذا الشهر الكريم؟! اللهم إنا نسألك الحلم.. والعلم.. والهدى.. والتقى.. والعفاف.. والغنى. عبدالله محمد بن حميِّد المستشار الشرعي بإمارة منطقة عسير