جاء مشروع تحول رأس المال البشري ضمن مبادرات «رؤية المملكة 2030»، وكثُر الحديث خلال الفترة الماضية عن ماهية تحول رأس المال البشري، وما هي أهدافه وآليات تنفيذه، ونتائجه المرجوة، وسلبياته المتوقعة. ومن خلال إطلاعي على تجارب بعض الجهات الحكومية المتحولة، يسرني أن أتجول بكم برحلة قصيرة في بعض النقاط الجوهرية لهذا المشروع الوطني، وانعكاساته على حياة الموظف، وتباين واختلافات تنفيذ المشروع بين الجهات الحكومية. مشروع تحول رأس المال البشري هو نقل موظف الجهة الحكومية من أنظمة التقاعد المدني وأنظمة الخدمة المدنية إلى نظام العمل والتأمينات الاجتماعية، مع بقاء تبعية الموظف للدولة، بخلاف التخصيص الذي ينقل تبعية الموظف للقطاع الخاص. يهدف هذا المشروع ظاهريا إلى ضمان جودة الأعمال التي يقدمها الموظف، وتحسين وضعه الوظيفي من خلال الرواتب والمزايا التي يمنحها نظام العمل للعمال، سواء في القطاع الخاص أو العام. تنوعت آلية تنفيذ هذا المشروع بين عدد من الجهات الحكومية، فمن الجهات من سعى إلى توفير سلالم وظيفية تتناسب مع رؤية وأهداف المرحلة الحالية، واستحداث بدلات ومزايا جديدة تغري موظف القطاع العام إلى الانتقال إلى نظام العمل والتأمينات الاجتماعية، وهناك جهات كانت متعسفة في استخدام هذا الحق، وذلك باستخدام التحول أداة لتنفير الموظفين القائمين على رأس العمل، والتخلص منهم من خلال إجبارهم على توقيع عقود عمل دون أي مزايا أو زيادة في الراتب، أو نقلهم إلى جهات حكومية لا تتوافر لديها رواتب ومزايا تعادل ما كان يتقاضاه الموظف في جهته السابقة. تباينت الجهات الحكومية في المحافظة على الموارد البشرية التي لديها والاستقطاب الخارجي، حيث منحت بعضها رواتب فلكية للموظفين المستقطبين، وفي المقابل قلصت رواتب ومزايا الموظفين القائمين على رأس العمل. في المقابل، نفذت بعض الجهات الحكومية مشروع التحول بطريقة احترافية، راعت فيها خدمات الموظفين القدامى، وجعلت لهم حرية الاختيار بين البقاء على النظام القديم أو الانتقال إلى نظام العمل والتأمينات الاجتماعية، ويعتبر نموذج مشروع وزارة الصحة من المشاريع الناجحة التي ينبغي على الجهات الحكومية التي شرعت أو سوف تشرع في تنفيذ المشروع الإطلاع عليه، والعمل من حيث انتهت وزارة الصحة. نفذت بعض الجهات مشروع التحول وفق ضوابط تنافي مبدأ العدالة والكفاءة بين الموظفين، حيث أطلعت على إحدى التجارب التي تركز المعيار الأساسي والوحيد فيها على درجة اختبار الكفاءة الوظيفية، الذي نفذته إحدى الشركات المتخصصة في مجال الموارد البشرية، مما نتج عنه استبعاد كفاءات وظيفية متميزة، لديها تأهيل علمي وخبرات عملية، وفي المقابل تم التعاقد مع موظفين لا يمتلكون مؤهلات علمية أو خبرات عملية، وبعضهم حاصل على تقدير «غير مرضي» في الأداء الوظيفي، وبعضهم محال إلى لجان التأديب. أحد مستهدفات مشروع تحول رأس المال البشري هو إعادة تأهيل وتدريب الموظفين القدامى، وهذا المستهدف تجاهلته بعض الجهات، واستبدلت برنامج أطلقوا عليه «التخارج الوظيفي» به، هدفه التخارج من الموظف بمنحه تعويضا ماليا لا يسمن ولا يغني من جوع، ولا يغطي الالتزامات المالية الملقاة على عاتقه، من قروض شخصية وقروض عقارية. بعض الجهات المتحولة لم تراعٍ خدمات الموظف، واقترابه من سن التقاعد المبكر، حيث ترتب على إلزام الموظف بالتحول من نظام التقاعد المدني إلى نظام التأمينات الاجتماعية حرمانه من حق التقاعد المبكر، وعدم استحقاقه التقاعد المبكر، لعدم الاستفادة من ضم الخدمات السابقة واللاحقة لأغراض التقاعد المبكر، وفق نظام تبادل المنافع. وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية وقفت أمام هذا المشروع موقف المتفرج الذي لا يعنيه شىء، فلم تراجع ضوابط التحول، وتتحقق من عدالة الضوابط، بما يحقق العدالة بين الموظفين، ولم تنسق مع الجهات الحكومية، لنقل خدمات الموظفين الذين لا تنطبق عليهم معايير التحول أو الذين لا يرغبون في التحول، بل تركت الأمر للموظف، يراجع الجهات الحكومية، ويستجدي قبوله بوظيفته، حاملا ملفه الأخضر الذي أعاد للأذهان صورة الموظف حديث التخرج الذي يبحث عن فرصة عمل. وقد تباينت الجهات المتحولة في نوعية عقود العمل وصياغتها، فمن الجهات من جعلت عقد العمل محدد المدة بسنة واحدة، ومنها من جعلته بسنتين، مما يتطلب معه العمل على التنسيق مع وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، للخروج بصياغة محددة لعقد العمل يراعي كل الحقوق والواجبات التي أقرها نظام العمل وأنظمة الدولة المرعية. وفي الختام.. أتمنى من الجهات التي تسعى لتنفيذ مشروع تحول رأس المال البشري العمل من حيث انتهى الآخرون، والإطلاع على تجارب الجهات السابقة، ومحاولة تلافي الأخطاء.