في الأيام المنصرمة حدث سجال بين المثقفين الليبراليين في المملكة العربية السعودية كانوا فيه على طرفين، الأول يرى أن مشكلة الإخوان المسلمين إذا كانت قمع الحريات فإن الليبراليين أيضا حين تسنموا زمام السلطة في دول أخرى حرموا الإخوان من برامجهم الانتخابية، فكانوا هم والإخوان على مشترك واحد وهو قمع المخالف؛ ويُجيب الآخرون بأن الغاية من قمع الإخوان هو حماية الحرية من تسلط أناس لا يؤمنون بها، ويضيف آخرون بأن قمع الإخوان إنما هو قمع لمنهج التكفير والقتل وليس قمعًا للرأي والحرية. والنهاية أن هذا السجال أثمر في نفسي تأكيدًا لما أعلمه قديمًا وهو أن الليبراليين والإخوان طرفان حزبيان وأن الخلاف بينهما ليس على حقيقة البرنامج أو المبدأ، بل على الكعكة التي لا يريد أي منهما أن يُشَاركه فيها الآخر. وليست الحرية أو الاتهام بالتسييس سوى ستار يُخَبئ الفكر الليبرالي خلفها حقيقته الحركية. فالحرية هي ركيزة ذلك الفكر، وهي بمثابة المعتقد الذي تتم الموالاة والمعاداة عليه عند غيرهم، وهي القيمة التي يمكن التضحية بكل شيء من أجلها، ومن تتبع نشأة الليبرالية وتطورها في الغرب يجد أن ما بُذِل من أجلها من الدماء وما أُقيم من حروب واضطهاد يوازي ما قام من حروب دينية، بل إن بعض الحروب الدينية كالحروب الكاثوليكية البروتستانية كانت جذوتُها إلباس أوائل الليبراليين الأوروبيين الدين المسيحي رداء الحرية والقتال تحت رايته. لذلك كانت حماية الدين وحماية الوطن القيمتان الغائبتان في هذا الحوار، مع الحضور المكثف للحرية كمحرك عقدي. حقيقة مشكلتنا مع الإخوان ليست الحرية وإنما الدين والوطن لا غير. فالدين يسعى الإخوان إلى حصره فيهم وتصوير الحياة السياسية والاجتماعية دونهم بأنها حياة بلا دين، وأن الحرب عليهم هي حرب على الدين، والليبراليون يدعمونهم في مشروعهم هذا لأنهم يُحَاربون كل توجه ديني باسم الحرب على الإخوان، لذلك تجدهم يقفون في وجه أي فتوى شرعية لا تناسب توجهاتهم تحت شعار محاربة الإخوان ومحاربة الصحوة، وما تفاعلات هلاك نوال السعداوي منا ببعيد حيث وجدنا كثيرًا من الأقلام والبرامج التلفزيونية الليبرالية تنسب كل من يُفتي بكفرها ولا يستجيز الترحم عليها بأنه إخواني مع أن المرأة تنكر الخالق والنبوة والكتاب؛ فكان كل ما صنعه الليبراليون هو إعطاء الإخوان صفة المدافع عن الدين الحامي لذمار العقيدة، وهذا هو شأنهم دائمًا معهم، بل إن أعظم ما يواجهنا به المتابعون ونحن ننتقد الإخوان هو تذكيرنا بمواقف الليبراليين من الفتاوى الشرعية وكيف ينسبونها للإخوان. كما نجد الليبراليين لا يتورعون عن أخونة كل شيخ أو داعية لا تتناسب أقواله أو توجهاته مع رؤيتهم حتى ولو كان ممن ينتقد الإخوان صباح مساء. والحقيقة أن الإخوان المسلمين يُمَثِّلُون حركتهم وأحزابهم ولا يُمَثلون الإسلام، وكثير من الفتاوى التي يُلْمز من يدافع عنها بأنه إخواني لا علاقة للإخوان بها، بل نجد قادتهم السياسيين والشرعيين ضدها، ككثير من الفتاوى المتعلقة بالمرأة والولاء والبراء والعمل السياسي. وبلغ من سعي الإخوان لإبراز أنفسهم على أنهم هم الإسلام أنهم يُحاربون كل من يزاحمهم في العمل السياسي من الإسلاميين بأقذر مما يحاربون به الأحزاب الليبرالية، وموقفهم من حزب النور في التجربة المصرية خير مثال، فقد حرموا الحزب من أي تمثيل حكومي رغم حصوله على ربع المقاعد النيابية، وعينوا أكثر من ثمانية وزراء من الليبراليين، حتى أن الإخوان المصريين في المنفى سخروا إعلامهم لمحاربة المرشحين البرلمانيين لحزب النور، مع أنهم يعلمون أن البديل لهم ليبراليون، وما ذاك إلا للحيلولة دون أن يكون لأي توجه إسلامي صوت سياسي غيرهم. وأما مشكلتنا الوطنية مع الإخوان فهي عدم اعترافهم بالأوطان والحدود، ورأيهم أن الانتماء للوطن يتنافى مع الانتماء للأمة. هذان الأمران -الدين والوطن- كانا للأسف غائبين في السجال الليبرالي الليبرالي. وحتى الحرية التي كانت موضع السجال، لم يُوَفَّق الطرفان في التستر تحتها، بل إن الإخوان تقدموا عليهم كثيرًا في تقمص الحرية وادِّعَائها، لدرجة أن عالِمهم يوسف القرضاوي زعم لهم أن الحرية مقدمة على تطبيق الشريعة، ومفكرهم راشد الغنوشي وصل به تبني الحرية إلى زعم أن الإسلام دين علماني، وعلى الصعيد التطبيقي فإن مَثَلَهُم السياسي الأعلى الرئيس إردوغان أقر حتى حرية المثليين وبيوت الدعارة، وفي المغرب تعاقبت حكومتان إخوانيتان وهما حكومة بن كيران وحكومة سعد الدين العثماني وحدثت في ظِلِهما أعظم مهرجانات سينمائية وغنائية هناك، ومن أبرزها مهرجان موازين الذي شارك فيه شاذون وشاذات، وفي المجال السياسي قام العثماني بالتطبيع التام مع الكيان الصهيوني مع أنه قبل أسبوعين من ذلك ندد بالتطبيع الخليجي. وحتى الأشهر التي حكم فيها الإخوان مصر وجدت الحريات الدينية والأخلاقية انفراجة لم تشهدها من قبل ولا من بعد. إذن فحتى الحرية التي يندب الليبراليون حظها في ظل الإخوان لم يكونوا صادقين في ندبها لأن الإخوان قطعوا فيها أشواطًا لم يصل إليها الليبراليون في بلادنا بعد، ولو مُكِّن لهم في بلادنا من جديد في ظل الانفتاح الذي نشهده لوجدنا لهم من الفتاوى ما ينافسون به أعرق دعاة الحرية كحال كثير من أعضاء اتحاد علمائهم. وبذلك نعلم أن الحرية ليست هي محل الإشكال بين الليبراليين والإخوان، بل الإشكال أن كلا الفريقين يريد أن يتسلق على كتف الآخر، فالإخوان يريدون أن يظهروا أمام العامة على أنهم المحاربون الأشداء للفكر الليبرالي المناوئ للمبادئ التي يعرفونها من الدين، ولحسن حظهم فإن الليبراليين يعطونهم الفرصة كاملة. والليبراليون يريدون أن يضربوا التدين الذي يتعارض مع توجهاتهم من خلال نقد الإخوان، ولحسن حظهم أيضا فالإخوان يعطونهم الفرصة كاملة لفعل ذلك.