ما من مسألة في العالم العربي، أساسية كانت أم جارية، إلا وخُطفت إلى الفناء الديني لتناقش هناك أو ليتم تصنيفها بعدا أو قربا من الله وقياسا به. ولا يتمّ ذلك في فضاء الفلسفة الدينية أو الفقه أو قياسا بأخلاقيات نص عليها الموروث الديني صراحة، بل من خلال فتاوى أحسن ما يُقال فيها إنها على الغالب غير منطقية. فمسألة المرأة تُخطف في العادة وتزجَ في مربَع حديث المسموح والممنوع. وقضية السلطة والحُكم كذلك تُؤخذ إلى نصّ متقادم أو إلى فتوى غريبة عجيبة تكفّر في طرف منها أو تمنح صكوك غفران. وبين هذا وذاك يتفرّغ أمراء الفتاوى على اختلاف مذاهبهم ليحرّموا دفن شاب مسيحي أشهر إسلامه في مقبرة إسلامية حدث في تونس، أو إلى تحريم كتاب قديم من ثمانمائة عام فطن متديّنو الفضائيات إلى وجوده فأعلنوا عليه الحرب، أو إلى تحريم أغنية لمارسيل خليفة تتضمن ترميزا للنص الديني. سيرورة جارفة لإقحام الدين في كل شيء. وهو ما يذكّرنا بالذين أرادوا تحليل كل شيء في الدنيا من خلال فكرة الصراع بين الطبقات أو بين الجنسين. لقد تعدى الحاصل في العالم العربي في باب اتساع الفناء الديني حدود النقاش حول علاقة الدين بالدولة أو الحيز العام بالخاص. لأن هذا الفناء اتسع على نحو ابتلع فيه الدولة ومؤسساتها وفرض هيمنة تتعدى المعقول. بل اكتسح الفاعل الديني كل حيز مفتوح على نسق ما أحدثته الأيديولوجية الاشتراكية في الأقطار التي سادت فيها. فقد سعت الاشتراكية لفرض إمبريالية ثقافية من خلال إخضاع كل تفاصيل الحياة إلى النظرية العلمية حسب زعمها. والأمر ذاته يحصل للعالم العربي الآن. فهو يُلفي نفسه عرضة لاكتساح الإمبريالية الدينية باعتبارها أيديولوجية شمولية تتصل بكل الشؤون الصغيرة والكبيرة. وحصل أن مواجهة الشمولية الاشتراكية ومساعيها لفرض الهيمنة تمت، وفي العالم العربي على وجه الخصوص، بادعاء مركزي أنها تتضمن عناصر الكفر والإلحاد أو مناقضة حكم الله وشريعته. ومع تداعي المنظومة الاشتراكية شعرت كل فكرة مضادة أو نقيض أنها انتصرت. فكيف يُمكننا بعد"انتصار المقدس"أن نواجه الساعين إلى الهيمنة وفرض إمبرياليتهم الدينية باسمه؟ وقد فعلوا ذلك من قبل بشكل أحرج مؤسسات الدولة قبل أن يُحرجوا الأفراد، وإلا كيف نفسّر سجن نوال السعداوي وإقامة الحد بين نصر أبو زيد وزوجته؟ بمعنى أن سيفهم كان مسلّطا منذ زمن. وهو ما لم يعد ضروريا ما دامت الدولة ومؤسساتها خطفت إلى فناء الجامع وحضرة الشيخ والمريد؟ تكتيك المتدينين الأصوليين المحبّب في الخطف إلى المركز المقدّس يُقصد به الحسم السريع لكل نقاش من خلال تجنيد الذات الإلهية. وهم فنانون ومحترفون في اقتباس الآيات البيّنات أو الحديث المناسب يستحضرون على متنها الذات الإلهية أو مفاعيلها. يفترضون أن ما من أحد سيجرؤ على المجاهرة العلنية بحقه في عدم الإيمان بشيء أو بالعلمانية أو بالعلم، وأن في مجتمعنا المأسور بكثافة المقدّس لا أحد في القوى الاجتماعية أو السياسية مستعد لتبني علمانية تناقش الديانات في أساسها وفلسفتها. ومن هنا يصعّب هذا المبنى الفكري في العادة على القوى الاجتماعية والسياسية التقدمية والليبرالية في توجهاتها، أن تضع هده التوجهات قيد التطبيق المتحرر من ضغط الديني والمقدّس المفترض. بل شاهدت مرة إعلاميا مرموقا يسأل أدونيس الشاعر عما إذا كان يؤمن بالله أو يكفر به من خلال مقابلة فضائية معه! وهو نسق فيه من الإكراه وإن بدا استفساريا لأنه يستدعي من المعنيّ أن يُذعن أو يؤمن أو يبايع أو يرمي عصا الطاعة قبل أن ينبس ببنت شفة! علينا أن نقرَ كنوع من البديهيات أن حريات التدين والاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية هي حقوق أساسية للإنسان الفرد والجماعات، مثلها تماما حريات غير المتدينين في أن يكونوا أحرارا من الأحكام والفروض في إطار احترام الإرادات الذاتية للأفراد والمجموعات. ولا تستقيم الحريات الدينية والإيمانية إلا إذا ضُمنت تلك الحريات، دون أن يقع الفرد تحت طائلة الإكراه أو العقاب أو الإجراءات. فلا يُعقل منطقيا أن تتحول الحرية الدينية إلى مصدر لتقييد حريات أخرى أو إلى سيف مسلط على رقاب من يختارون ألا يؤمنوا بما يؤمن به الآخرون. ولكل فرد ومجموعة أن يتمتع بحريته كما يريد. هذه هي البديهة وليس الإكراه والقمع باسم الدين أو العُرف الاجتماعي الموروث. ولا بدَ من خوض هده المواجهة، وهو ما تأخّر كثيرا لأسباب موضوعية قليلة وذاتية كثيرة، إدا أردنا أن ننهض على كل المحاور وأن نحقق ذاتنا كجماعة أو جماعات وكأفراد نساء ورجالا يتمتعون بحرية الاختيار. الحريات الشخصية توازي في ثقلها وقيمتها حريات العبادة والتدين وعلينا أن نقرَ بها كمجتمع يتطلع نحو تحرره، وأن نرسخها عميقا بجوار الحريات الأخرى، على الأقل. لكن من مفارقات الوضع العربي وحال الحريات الدينية فيه أن شيوخا وأمراء طرائق دينية ومرجعيات دينية عربية وإيرانية، أيضا لجأت إلى الدولة الغربية الليبرالية لممارسة حرياتها الدينية الممنوعة منها في وطنها العربي الأم. لكنها عندما استطاعت داست حريات وعقائد الآخرين بعنفها أو بفتاواها. بل كثيرا ما تصير الدولة المحتضنة والتي تدفع لهذا الشيخ أو ذاك مخصصات لجوء وضمان دخل ضحية تحريض أعمى من هؤلاء المتدينين الجالسين على كراس موازية لكرسي الله في السماء! هؤلاء ينتفعون من الليبرالية وخيراتها ونعمها ويعتاشون من لحمها ومن الحريات التي تكرسّها لكن حضينتهم أضيق من خرم الإبرة ويدهم متحفزة قابضة على الخناجر! لا يزال العالم العربي يناقش الحرية في مستوى العلاقة بالغرب أو بالاستعمار الجديد بينما الحرب على الحريات هبط في مستواه إلى مواجهة يومية مع الإكراه الديني والقمع والعنف باسم الله والإسلام. لقد أفلحت ثورات التحرر العربية في تحرير الإنسان نسبيا من الاستعمار لكن المشاريع والأنظمة التي تطورت بعد ذلك أخضعت هذا الإنسان لقمعها وسطوتها باسم أيديولوجيات ويوتوبيات ساذجة لكنها دموية. وكل أيديولوجيا مطلقة بما فيها الدينية تسعى بالضرورة إلى قمعها وعنفها وفاشيتها في مرحلة متقدمة من هيمنتها. ولا أعتقدنا مجبرين على السير في إثر أوروبا التي أنتجت نموذجين من التوتاليتارية الاشتراكية في شرقها والفاشية في غربها! * كاتب فلسطيني.