كان التلفزيون السعودي سخيا معي لما كان قناة واحدة، نطالعها مصبحين، ونجتمع عليها ممسين، وكان من أطيب ما فيه تلك الساعة التي أشاهد فيها برنامجي الشيخين الجليلين علي الطنطاوي ومحمد حسين زيدان. نبهني كلاهما على ضروب من الثقافة، وعرفاني جمهرة من المثقفين، منهم محمد كرد علي، والأمير شكيب أرسلان، وأحمد حسن الزيات، وعجاج نويهض. وكان اسم هذا الأخير يسبق، عادة، بألقاب تدل على جهاده العظيم في سبيل العروبة والإسلام، وشدني في حديثهما ذلك الثناء الذي خلعاه على ترجمته لكتاب حاضر العالم الإسلامي، فلما ظفرت به، بعد أمد طويل، احتفيت، مثلهما، بالكتاب والمترجم، وحبب إليّ ما في أسلوبه من جلال، واتجهت، من بعد، إلى أنداده من الكتاب، وإلى العصر الذي عاشوا فيه، أقرأهم في الكتب، وألتمس مقالاتهم في المجلات القديمة، ويتفق لي، مرارا، أن أقع على فصول مجهولة استخفت في هذه المجلة أو تلك، فيلوح لي تاريخ مطوي، وحقيقة خيف عليها من النسيان. اقتضتني العزلة التي فرضتها علينا «جائحة كورونا» أن أتبع القراءة المنظمة بأخرى حرة، لا ألتزم فيها برنامجا بعينه، وكان حظ المجلات الأدبية القديمة عظيما، وأظفرني عدد قديم من مجلة الهلال بوثيقة «مجهولة» تتصل بسيرة عجاج نويهض وجهاده، هي، لا شك، مهمة للمؤرخين والدارسين، ذلك أنه مر بي، وأنا أقلب صفحات عدد شوال 1393 = نوفمبر 1973، تعقيب في باب «رحلة الشهر»، عنوانه «بنو معروف.. لا الدروز» (ص 68-72)، فلم أعره اهتماما، فلما قرأت في خاتمته اسم عجاج نويهض، عددته من أوجب ما أقرأ، ما دام العلامة الجليل كاتبه. وخلاصة التعقيب أن الشاعر صالح جودت -رئيس تحرير الهلال، آنئذ- كتب في مجلة المصور (10 أغسطس 1973) موجزا صحفيا عن الملتقى الإسلامي الذي أقيم في الجزائر، وشهده ممثلون للمذاهب الإسلامية كافة، وكان عجاج نويهض من شهوده. واستجلب نظره حديث جودت عن العمائم السنية والشيعية، وقوله، عقب ذلك «وشيوخ مطربشون من مذاهب مختلفة، أذكر منهم الأستاذ عجاج نويهض، الدرزي». قال عجاج، فيما يشبه العتاب، «فأنا في نظركم «مطربش» مردي أحد تلك المذاهب المختلفة، وإذا كنت أنا في نظر الأستاذ صالح جودت أمثل أحد تلك المذاهب، فما هي تلك المذاهب الأخرى يا ترى؟ يا ليتكم ذكرتموها». ويهمنا من مقال نويهض قوله «وإني بكل إخلاص للأخ الكريم وحسن نيته، أعترض على نعتي «بالدرزي»، في الملتقى للأسباب التالية». وسألخص، للقراء الكرام، تلك الأسباب، بترتيبه، وسأحتفظ بعبارته: 1 - قال «إن صفتي الإسلامية تستوعبني من قمة رأسي إلى أخمص قدمي، مع قلبي وإيماني. لي خمسون سنة أو أكثر قليلا، وأنا أعمل جهدي لأكون من التابعين بإحسان للذين هم قدوة وقادة من العاملين في العالم العربي والإسلامي، وما سمعت أحدا يوما قال لي أو نعتني بأنني «درزي» إلا الأستاذ صالح جودت في «المصور» سنة 1973». 2 - إنه ينتمي، عرقا ودما، إلى «بني معروف» الذين يقال لهم في باب الخطأ التاريخي الفظيع «دروز»، وهو واحد منهم، وقال بالنص «وديني الإسلام ولا «أتمذهب» غير مذهب أهل السنة. الإمام علي -كرم الله وجهه- هو عندي من الخلفاء الراشدين، رضي الله عنهم، وأعترف بما اختصه الله به من فضائل وشمائل، ولكن في المفاضلة بين الخلفاء الراشدين إني آخذ بمذهب بعض السلف: ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة». 3 - إنه دعي إلى «الملتقى» بصفته الإسلامية، ولبى الدعوة بهذه الصفة، ولا يوجد شيء من «الدرزية» في غير المنتمى التاريخي إلى عشائر بني معروف، «فما هي الموحيات التي جعلتكم تعتبرونني «درزيا». أما منتماي التاريخي إلى عشائر بني معروف في لبنان فإني معتز به لنقاوته وصفوة تحدره من أصلنا اليماني ثم العراقي ثم اللبناني منذ سنة 141 للهجرة». 4 - قال: إنه منذ سنة 1918، بعد تخرجه في المدارس، خرج من لبنان إلى دمشق، ثم في سنة 1920 إلى فلسطين، فعاش قضية فلسطين كلها، وعمل في المجلس الإسلامي الأعلى في فلسطين عشر سنوات تحت رئاسة مفتي فلسطين الحاج محمد أمين الحسيني، وإنه حج سنة 1926 (1345) وحضر المؤتمر الإسلامي الكبير الذي دعا إليه الملك عبدالعزيز، رحمه الله، وإن المؤتمرين اختاروا عجاجا -لصغر سنه- ليكون كاتب الجلسة الافتتاحية المؤقتة للمؤتمر، وفي سنة 1959 عاد إلى لبنان وأقام في بلده «رأس المتن». 5 - أجمل تاريخ قومه «بني معروف»، وما أدوه للعروبة والإسلام منذ دفع بهم الخليفة العباسي أبوجعفر المنصور، من المعرة إلى لبنان، لمنازلة المردة، فاستقروا في غير ناحية منه، وعملوا على تعريبه، في أدوار تاريخية جاء على ذكرها. ثم ختم تعقيبه على صالح جودت بقوله «وأخيرا إني لست من المطربشين فقد هجرت الطربوش منذ عهد بعيد، واعتضت عنه «بقالباق» أسود، ولكني لا أعتمره إلا حيث يكون اعتماره أولى وله دواعيه، فهل للأخ الكريم أن يفهمني حق الفهم: فأنا عرقا ودما أنتمي إلى العشائر المعروفية التي مضى عليها في لبنان أكثر من 12 قرنا، وتاريخها في الجهاد هو ما قدمت، وأنا دينا ومعتقدا مسلم سني، وإني مؤتم بالأمير شكيب أرسلان، طيب الله ثراه. فهل لأخي الكريم أن يصحح على الوجه الذي يختار؟».