«الدبلوماسية الدولية» تقف عاجزة أمام التصعيد في لبنان    الهلال يهدي النصر نقطة    لحظات ماتعة    ما سطر في صفحات الكتمان    السدرة وسويقة.. أسواق تنبض في قلب الرياض    «التلعيب» الاستراتيجية المتوارية عن المؤسسات التعليمية    ثمرة الفرق بين النفس والروح    وزير الصحة يتفقد ويدشّن عدداً من المشاريع الصحية بالقصيم    فصل الشتاء.. هل يؤثّر على الساعة البيولوجية وجودة النوم؟    منجم الفيتامينات    بندقية للإيجار !    جودة خدمات ورفاهية    كولر: فترة التوقف فرصة لشفاء المصابين    مدرب الأخضر يستبعد عبدالإله العمري ويستدعي عون السلولي    الأزرق في حضن نيمار    أنماط شراء وعادات تسوق تواكب الرقمنة    الحرّات البركانية في المدينة.. معالم جيولوجية ولوحات طبيعية    ترسيخ حضور شغف «الترفيه» عبر الابتكار والتجديد    أُمّي لا تُشبه إلا نفسها    حقبة جديدة    من توثيق الذكريات إلى القصص اليومية    الناس يتحدثون عن الماضي أكثر من المستقبل    الحياة قوانين وليست لعبة!    «زهرة» تزرع الأمل وتهزم اليأس    مقال ابن (66) !    قوائم مخصصة في WhatsApp لتنظيم المحادثات    الغرب والقرن الأفريقي    نعم السعودية لا تكون معكم.. ولا وإياكم !    الاتحاد يتغلب على العروبة بثنائية في دوري روشن للمحترفين    ضبط شخصين في جدة لترويجهما (2) كيلوجرام من مادة الحشيش المخدر    شرطة النماص تباشر «إطلاق نار» على مواطن نتج عنه وفاته    «السوق المالية»: إدانة 3 بمخالفة نظام السوق المالية ولوائحه التنفيذية ونظام الشركات وتغريمهم 3.95 مليون ريال وسجن أحدهم    المربع الجديد يستعرض آفاق الابتكار الحضري المستدام في المؤتمر العالمي للمدن الذكية    أمير القصيم يرعى حفل تدشين 52 مشروعا صحيا بالمنطقة بتكلفة بلغت 456 مليون ريال    فقيه للرعاية الصحية تحقق 195.3 مليون ريال صافي ربح في أول 9 أشهر من 2024 بنسبة نمو 49%    «دار وإعمار» تكشف مشاريع نوعية بقيمة 5 مليارات ريال    رحيل نيمار أزمة في الهلال    أمانة الشرقية: إغلاق طريق الملك فهد الرئيسي بالاتجاهين وتحويل الحركة المرورية إلى الطريق المحلي    نائب أمير الشرقية يطلع على جهود اللجنة اللوجستية بغرفة الشرقية    مبادرة لتشجير مراكز إسعاف هيئة الهلال الأحمر السعودي بمحافظة حفر الباطن    أمير الباحة يستقبل مساعد مدير الجوازات للموارد البشرية و عدد من القيادات    محافظ جدة يشرف أفراح آل بابلغوم وآل ناصر    هاريس تلقي خطاب هزيمتها وتحض على قبول النتائج    منتخب الطائرة يواجه تونس في ربع نهائي "عربي 23"    المريد ماذا يريد؟    أمير تبوك يبحث الموضوعات المشتركة مع السفير الإندونيسي    أربعينية قطّعت أمها أوصالاً ووضعتها على الشواية    الدولار يقفز.. والذهب يتراجع إلى 2,683 دولاراً    ليل عروس الشمال    رينارد يعلن قائمة الأخضر لمواجهتي أستراليا وإندونيسيا في تصفيات مونديال 2026    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني وفريق عملية زراعة القلب بالروبوت    التعاطي مع الواقع    التكامل الصحي وفوضى منصات التواصل    الداخلية: انخفاض وفيات حوادث الطرق بنسبة 50%    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني    فلسفة الألم (2)    سلام مزيف    همسات في آذان بعض الأزواج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شكيب أرسلان : مثقف جبلي بين "العثمانية" والعروبة . الولاءات الكثيرة اذ تجتمع معاً في قلب واحد 1 من 2
نشر في الحياة يوم 20 - 04 - 1999

قبل بضعة أيام على وفاة "أمير البيان" شكيب أرسلان في كانون الأول ديسمبر 1946 أرسل الكاتب اللبناني أمين الغريب مقالة، الى مجلة "الصياد" اللبنانية، للتعريف بالرجل العائد الى موطنه في أواخر شهر تشرين الأول أوكتوبر 1946 بعد أن قضى في المنفى، خصوصاً في سويسرا، زهاء ربع قرن. ونشرت المجلة المقالة هذه في ثاني يوم وفاة الأمير، وفيها يفصح الكاتب عن خشيته من تعرّض "أمير البيان" للنسيان والجهل لدى أبناء الجيل الحديث، ذلك أن "من آثار عهد الانتداب فينا أنه كاد يطمس على المعارف العربية عندنا حتى أن بعض كتاب الصحف من حملة أعلى الشهادات في كبريات الجامعات جاؤوني أمس يسألون بكل سذاجة من هو الأمير شكيب وبماذا يشتغل! فتذكرت حادثاً مشهوراً جرى في فرنسا لرجل غريب ركب عربة في الشارع الى بيت فيكتور هوغو، وسأل الحوذي في الطريق هل هو يعرف ذلك الأديب؟ فأجابه "قد تجد يا سيدي في فرنسا من لا يعرف الله. ولكن لن تجد من لا يعرف فيكتور هوغو".
ما يصبو اليه الكاتب المذكور ليس المقارنة في حد ذاتها، على فخامتها وضعف قيمتها، بين شاعر فرنسي ذائع الصيت، فيكتور هوغو، وبين شكيب أرسلان الذي كتب وألقى قصائد في مناسبات كبيرة، إلاّ أنه كان، بحسب ما قال، يغلب عليه "الميل الى النثر لا سيما النوع المرسل منه. وقد سئلت مرة أيام كنت في شرخ الشباب: أيهما أحب إليك النظم أم النثر؟ فأجبت أني أستحي أن أكون شاعراً. وأفتخر بأن أكون كاتباً". ما يرمي اليه الكاتب إنما هو المقابلة بعبارات بلاغية وأخلاقية بين وجود اطار وثقافة وطنيتين في فرنسا تسمحان بتعهد الكتّاب والأدباء وإعطائهم المكانة التي يستحقونها في مجتمع راسخ يتمتع بذاكرة تاريخية متصلة ومشتركة، وبين بلد لبنان تتصارع جماعاته وأفراده على التاريخ وعلى قيمة الرجال الذين رغبوا في صنع التاريخ، على طريقتهم بطبيعة الحال، فيما كان هذا التاريخ، الموسوم بالاضطراب والتشوش والتبدّل والانتقال، يصنعهم ويشرط أعمالهم وأنشطتهم وتقلّبات حياتهم. أمّا القول بأن الانتداب، أو ما يناظره، أحدث شرخاً في الثقافة والمجتمع المحليين حتى "كاد يطمس على المعارف العربية عندنا، فهو، على صحة بعض وجوهه، لا يغطي الحقيقة كلها.
بعبارة أخرى، لا ينفصل جهد المؤرّخ أو الكاتب من أجل تكوين صورة معقولة ومتزنة عن شخصية وسيرة شكيب أرسلان، لا ينفصل عن السعي الى تحرير دائرة ومادة هذه الصورة من إسار أدبيات وتمثيلات سائرة تتأرجح بين أهواء المدح والتقريظ والاطناب والدعاوة وبين الهجاء والذم والدعاوة المضادة. ذلك أن جزءاً بارزاً من الأدبيات الدائرة كان شكيب أرسلان يغلب عليه عرض المناقب والمحامد والمآثر Hogiographie أو على العكس، التعريض بأفعاله والغمز من قناة مواقفه المتبدلة وعدم ثباته على مبدأ واضح.
والحال أن حياة أو سيرة الأمير شكيب، بما في ذلك "روايته العائلية" وعناصر تكوينه الذهني والفكري، انطوت على تنوع وتعدد في المصادر والمرجعيات الاجتماعية والثقافية، وهو تنوع قد يبدو لنا اليوم حافلاً بالتناقضات وعصياً بالتالي على الاستقرار في صورة متجانسة ومتماسكة، إلا أن اعطاء بعض القوام التاريخي لهذه السيرة الناشطة في قلب تحولات وتبدلات كبيرة، يستدعي الالتفات الى عبارات الرجل وتمثيلاته التي كان بواسطتها يصنع صورة عن نفسه وعن وعيه لذاته.
قد يكون الوجه اللافت للنظر في رواية أرسلان العائلية هو علاقته بأمه وشدة تعلّقه بها، وتعلّقها هي به، خصوصاً بعد وفاة أبيه الأمير حمود عام 1887 وكان شكيب في الثامنة عشرة من العمر. ولكننا نترك لباحثين آخرين قراءة هذه العلاقة في منظار فرويدي، مفضلين، ها هنا، المنظار التاريخي والسوسيولوجي. فوالدة شكيب أرسلان كانت شركسية الأصل، وزواج الأمير حمود أرسلان بها يشي بقدر من التجاوز لعوائد التزاوج الداخلي endogamie الشائعة في ثقافة الجماعات التقليدية المشدودة الى وحدة الأصل والمعتقد والمذهب والإقليم، وهو انشداد كان يعززه نظام الملل العثماني من جهة، واضعاً الشريعة الإسلامية ومبادئها الخلقية و"المساواتية" فوق الخصوصيات الضيقة للجماعات، من جهة أخرى. وما يعنينا من هذا الجانب العائلي الحميم يتجاوز الخوض التحليلي - النفسي في رغبات الأمير شكيب، سواء كانت واعية أم لا واعية، في العثور على رابطة ثقافية عريضة من شأنها أن تجمع بين أب درزي ينتمي الى أسرة عريقة توارثت مقاليد الزعامة المحلية والإدارية في إطار السلطنة العثمانية، وبين أم شركسية. ما يعنينا أكثر هو الالتفات الى جملة الشروط التاريخية والسوسيولوجية التي في كنفها تسنى للأمير العثور على طرائق وعبارات وتمثيلات من أجل تعهد هذه العلاقة ودمجها في كليات جامعة يحسب لها التواصل والتجانس، وهي عبارات تمسّك بها شكيب أرسلان ودعا اليها، ليس من دون لبس وغموض، وكلها تدور على الوحدة الإسلامية، في مرحلة أولى تمتد الى ما بعد الحرب الأولى، وعلى الوحدة العربية في مرحلة ثانية تمتد من أواسط العشرينات حتى وفاة الأمير عام 1946.
فالأمير شكيب المولود في 25 كانون الأول ديسمبر 1869 في بلدة الشويفات الواقعة على مبعدة 9 كلم من بيروت رأى النور في عالم منشغل بنفسه أن معايير صلاحيته وقوامه بدأت تهتز تحت وطأة عناصر مستمدة ومرشحة للتأثير المتزايد، وهذه العناصر التي تجملها وتختصرها عبارة "النهضة" توفرت كلها للأمير ولابست تكوينه الفكري والذهني، في صورة تكاد تكون استثنائية. وتلقى شكيب وهو في الخامسة من العمر، مع شقيقه نسيب الذي يكبره بسنة ونصف، بعض مبادىء القراءة والكتابة على معلم محلي في الشويفات كما قرأ القرآن الكريم على معلم آخر وحفظ منه سوراً كثيرة. ثم درس في صورة متقطعة في مدرسة حكومية عام 1877، ومن ثم في مدرسة من المدارس الأميركانية في الشويفات. غير أن المحطة البارزة في مسار أرسلان تبدأ عام 1879 عندما انتقل هو وشقيقه نسيب وابن عمه قندي سعيد أرسلان لإكمال الدراسة في مدرسة الحكمة المارونية في بيروت. وقد درس الثلاثة في هذه المدرسة "العصرية"، المؤسسة عام 1874، مدة سبع سنوات وقرأوا الفرنسية على المعلم أوغست أديب الذي أصبح في الثلاثينات من القرن هذا رئيس نظار لبنان، ومن ثم على المعلم شاكر عون، وقرأوا العربية على واحد من كبار المتخصصين في اللغة العربية وآدابها وهو الشيخ عبدالله البستاني صاحب معجم "البستان" والذي كان يقول بأن شكيب أرسلان هو أنبغ تلاميذه. يمكننا القول بأن فترة الدراسة هذه في مدرسة الحكمة في بيروت، ساهمت في نقل التلميذ شكيب من إطار ريفي جبلي تقليدي وأسيادي seignemial في معنى ما، الى اطار مديني، وكوسموبوليتي في معنى ما أيضاً. لكن الإطار المديني والكوسموبوليتي هذا لم يكن، بطبيعة الحال، يتمتع بتعريف وصورة واضحين، إذ كان هذا الفضاء المديني يشهد بدوره تأرجحاً بين جاذبيات المؤسسات التقليدية وبين تأثيرات الأفكار والمؤسسات الأوروبية. وفي بيروت العثمانية هذه، كان إقبال الفتيان المتحدرين من عائلات الأعيان، المدينية والجبلية على حد سواء، على المدارس ذات الطابع الجديد بهذا القدر أو ذاك، وثيق الصلة بمناخ التنافس بين الطوائف والمناطق. وهذا ما يشير اليه شكيب أرسلان عندما يتحدث في سيرته الذاتية عن المرحلة التالية لإكمال دراسته عام 1886 في مدرسة الحكمة، إذ في أثرها، يقول شكيب، "دخلنا في المدرسة السلطانية التي كانت يومئذٍ في بيروت، وكان قد أسسها المسلمون لأجل تهذيب شبانهم سائر شبان الطوائف المختلفة التي كانت لها مدارس عالية في بيروت.
"ثم ان الحكومة العثمانية وضعت يدها على المدرسة السلطانية المذكورة وألحقتها بالمدارس الأميرية، فدخلنا الى المدرسة المذكورة لنتعلم اللغة التركية والفقه. وصادف أن الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده المصري كان يقرأ فيها الفقه والتوحيد والمنطق، فقرأنا عليه مجلة الأحكام العدلية وصرنا نلزم مجالسه المفيدة فرأينا فيه عالماً لا كالعلماء الذين نعهدهم، بل عالماً جمع بين العلوم العقلية والنقلية الى الأمد الأقصى ونظر الى جميع الأشياء نظر الفيلسوف الذي نظره يعلو على الأنظار المعتادة. وتعارف المرحوم والدنا مع الأستاذ المشار اليه وانعقدت بينهما مودة أكيدة وصرنا نتردد الى منزله فضلاً عن سماع دروسه، وكان هو يزورنا في بيتنا في الشويفات، وبالاختصار رأينا في ذلك الرجل لا عالماً فقط بل عالماً بفتح اللام لم نعهد رؤية مثله من قبل".
نعلم أن تأثير الشيخ الصلح محمد عبده 1849 - 1905 وأستاذه "حكيم الشرق" جمال الدين الأفغاني 1839 - 1897 كان حاسماً في ما يتعلق بالسلوك الذهني والمثقف لشكيب أرسلان، والمراسلات التي حصلت بين أرسلان ومحمد عبده، علاوة على الإشارات الكثيرة التي بثها أرسلان في العديد من كتاباته، خصوصاً نصه الطويل عن إقامة محمد عبده في بيروت، واستدامة الصلة بينهما بعد عودة عبده الى مصر عام 1888، ونصه عن الأفغاني في تعليقاته على كتاب "حاضر العالم الإسلامي" للوثروب ستودارد. كل هذه تدلّ على قوة التأثير المشار اليه. غير أن الإرث الفكري لعبده والأفغاني لم يكن خلواً من الالتباس والغموض، وكان يحتمل بالتالي تموضعات مختلفة. وما يستحق الانتباه، ها هنا، هو عبارة أرسلان التي يضع فيها نظرة محمد عبده الى جميع الأشياء نظر الفيلسوف الذي نظره يعلو على الأنظار المعتادة، ناهيك عن قوله شيئاً مماثلاً عن سلوك الأفغاني. فهذه العبارات تنمّ عن نزوع الى النظر الى أشياء الحياة ومادتها من محل عالٍ وشاهق. وقد تمسك أرسلان بهذا السلوك الذهني بحيث جعل من ذائقة العلو والارتفاع ملمحاً بارزاً من ملامح التفكير المثقف والناشط من أجل استنهاض الأمة الإسلامية والعربية كي تلتقي بصورتها المثلى العابرة للتاريخ، ان لم تكن ميتا - تاريخية.
ذائقة النظر من علو هذه والتي تجيز لنا أن نطلق رمزياً على شكيب أرسلان صفة "المثقف الجبلي" لا تقتصر دلالتها على الإطار الجغرافي ودوره في تكوين العقليات والمواقف والسلوكات الذهنية. بل هي تحيلنا كذلك الى صنف من الأدب الفلسفي - الإشراقي والعرفاني ذي الطابع الصوفي، وهو أدب قرأه الأفغاني بعناية مع تلامذته، خصوصاً محمد عبده، ويشتمل على نصوص لإبن سينا والفارابي والسهروردي ونصير الدين الطوسي والدواني. وهذا الأدب الذي يضرب بجذوره في الأفلاطونية والأفلاطونية المحدثة يبني صورة المجتمع والأمة والإنسان على مثال النفس التائقة الى التحرر من سجنها الدنيوي المادي كي تحلق وترتقي الى أصلها الرفيع الذي يجعلها أشرف المخلوقات، هي التي هبطت الى الإنسان من مكانها الأرفع، بحسب عبارة شعرية لإبن سينا.
ولكن عودة النفس الى ذاتها لا تحصل من دون صحوة واستفاقة كبيرتين، ومن دون إرادة وتضحيات وجسارة، إنها حكاية مسار بحث روحي عن ماهية الذات ومسار سيطرة على الذات. الأمر المهم في كل هذا، هو أن الأفغاني، وتلامذته ومريديه من بعد، نقلوا صورة النفس المتشوقة الى أصلها النوراني الصافي من إطار التعبير الرؤيوي والصوفي الى إطار التاريخ والسياسة والمصالح وتشخيص الأمراض "الثقافية" التي تسبّب الانحطاط والوهن والتأخر. وإذا كانت هذه النقلة لا تتم من دون توترات وتجاذبات، بل حتى مفارقات، فإنها تجعل في الوقت ذاته من العارف والعالِم داعية الى المجد والعظمة والشرف، بحيث لا تأسره المناصب والوظائف. وهذا طموح كبير تضيق به الأطر المعهودة والمتوارثة لدى الجماعات الإسلامية.
في كل الأحوال، يخبرنا شكيب أرسلان عن بدايات دخوله الحياة العامة بالقول بأنه أثر وفاة والده عام 1887 الذي كان آنذاك مديراً لناحية الشويفات "التي هي وطننا من أكثر من ألف سنة"، صدر أمر متصرف جبل لبنان بأن يكون شكيب محل والده في المديرية "فبقيت في تلك المأمورية أكثر من سنتين. ثم وجدت في الجبل المجال ضيقاً وأنا كنت طامحاً الى ما هو أعلى وأوسع فاستعفيت من المديرية وقصدت الآستانة". وكان أرسلان في هذه الفترة قد بدأ يكتب في الصحف كما نشر مجموعة شعرية باسم "الباكورة".
ومكث أرسلان سنتين في الآستانة وكاد أن يصبح عضواً في مجلس المعارف لكن حقد الصدر الأعظم على العائلة الأرسلانية بسبب خلافات وقعت قبل عشرين عاماً حال دون تعيين شكيب في المجلس المذكور. وذهب هذا الأخير عام 1892 الى باريس ولندن، والتقى في باريس بالشاعر أحمد شوقي ونشأت بينهما صداقة امتدت أربعين عاماً وكتب عنها أرسلان كتاباً معروفاً نشره عام 1936. ويخبرنا أرسلان أنه عاد من أوروبا الى الآستانة، وفي هذا الوقت توفي متصرف جبل لبنان وجرى تعيين متصرف آخر، فسارع أرسلان بالعودة الى لبنان "لا لأجل أن أحصل على مأمورية لنفسي، بل كان جل قصدي السعي في هذا الدور الجديد بإعادة قائمقامية الشوف الى العائلة الأرسلانية كما كانت منذ القديم. وقد تم ذلك بعد مصارعات سياسية شديدة وأعيد المرحوم عمنا الأمير مصطفى أرسلان الى قائمقامية الشوف".
ليس صعباً أن نلحظ بأن مشاعر الولاء والانتماء لدى شكيب أرسلان كانت وظلّت تتوزع على دوائر مختلفة: الانتماء الى عائلة ذات نفوذ داخل الطائفة الدرزية، والى اقليم جبل لبنان الذي كان يتمتع بوضعية خاصة عقبت المواجهات الدامية عام 1860 بين الدروز والموارنة، وعرفت بنظام "المتصرفية" بعد توافق بين الدولة العثمانية والقوى الأوروبية، وانتماء الى العروبة القائمة على روابط النسب واللغة والدين، وانتماء أكثر اتساعاً الى الإسلام والى الدولة العثمانية التي كانت في نظر أرسلان مناط السيادة والوحدة الإسلاميتين. وكانت كل دائرة من دوائر الانتماء مسرحاً لنزاعات على النفوذ والمكانة. غير أن هذه الولاءات المتجاورة لم تكن، في وعي شكيب أرسلان، تحظى بالقيمة ذاتها. بل يبدو أن أرسلان كان يقيم نوعاً من التراتب بحيث يكون الانتماء الى الأمة العالمية للإسلام في القمة والصدارة. لقد عيّن أرسلان لبضعة أشهر قائمقاماً على منطقة الشوف عام 1902، ثم أعيد تعيينه سنة 1908 واستقال من منصبه عام 1910، كما انتخب نائباً عن حوران في البرلمان العثماني مجلس المبعوثان عام 1913 حتى نهاية الحرب الأولى. غير أن هذه الوظائف المتصلة بموقعه العائلي والطائفي الدرزيين لم تكن بالنسبة اليه الشاغل الأكبر للولاء والانتماء، بل كان ينزع الى موضعة هذا الموقع وإدراجه في ولاء أكبر وأعرض الى الأمة الإسلامية ودولتها العثمانية في مرحلة من التفكك المتزايد تحت وطأة التدخلات الأوروبية ومشاريع القوى العظمى لاقتسام مناطق وولايات الدولة العثمانية. وهذا ما حمله الى الذهاب متنكراً بلباس بدوي مع مجموعة من المتطوعين الدروز، الى طرابلس الغرب إثر الغزو الإيطالي لليبيا عام 1911 وبقي هناك الى آب أغسطس 1912 برفقة القائد العثماني أنور باشا حيث توثقت العلاقة بينهما واستمرت الى ما بعد نهاية الحرب. وفي السياق ذاته ذهب الى البلقان عندما اندلعت الحرب فيها عام 1912 للإشراف على بعثات الهلال الأحمر وتوزيع الإعانات المرسلة من مصر الى مسلمي الروملي.
تغليب شكيب أرسلان لمبدأ الولاء القومي الإسلامي على الولاءات الضيقة الأخرى، هي التي جعلت أحد الباحثين في حياة ونشاط الأمير، وهو الكاتب المصري أحمد الشرباصّي، يقول بأن شكيب أرسلان "يعدّ من الناحية الشكلية درزياً، ولكنه في الاعتقاد كان سنّياً، وكان يتعبد على مذهب أهل السنّة، فهو يصوم ويصلي ويزكّي ويحج كما يفعل جمهور المسلمين، ودفاعه عن الدروز كان سياسة وبقصد تجميع الكلمة وعدم التفرقة بين الأمة". ذلك أن شكيب أرسلان كتب بالفعل صفحات عدّة عن نسبه العائلي وانتمائه الدرزي، في كتاب "روض الشقيق" الذي جمع فيه قصائد شقيقه نسيب، وفي تعليقاته على "تاريخ ابن خلدون"، واعتبر أرسلان أنه من سلالة "الأشراف" ومن "آل البيت النبوي" نظراً الى اتصالهم بفاطمة الزهراء ابنة الرسول، ولذا "حرروا أي أجداد أرسلان أنسابهم لدى نقباء الأشراف، وكتبوا به الكتب المؤلفة، وهذا أمر بديهي لا نزاع فيه، لأن هذا الشرف هو مما يتنافس به، ومما يستجلب لصاحبه مزايا معنوية، وأحياناً منافع مادية، فلا يريد منتسب الى هذا البيت الشريف أن يفقد الدليل على نسبته هذه". على أننا نلحظ بعض التحفظ لدى أرسلان من قضية النسب إذ كان يرى فيه أيضاً الوجه السلبي للانقسام والتعصب، "فلولا آفة الانقسام هذه لكان التمسك بالأنساب هو من الفضائل الاجتماعية التي يتنافس بها، ويتمكن بها المصلحون لحكوماتهم وأوطانهم من ترقية أقوامهم بالبحث عن سلائلهم، والاعتناء بحفظ أصالتها، ومنع اخلاطها بغيرها مما يشوب نقاوتها". ويضرب أرسلان مثلاً بالألمان للتدليل على أن التمسك بالأنساب يدعو الى توارث الفضائل والحرص على سمعة البيوتات. كذلك كتب أرسلان نوعاً من الدفاع النفاحي عن الدروز للتأكيد على صحة وقوة ارتباطهم بالإسلام.
* النص المنشور بالعربية هنا، يصدر هذه الأيام، بالفرنسية، في كتاب جماعي بعنوان "لبنان: وجوه معاصرة" وذلك بالتعاون بين معهد العالم العربي ودار نشر "سيرسيه" في فرنسا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.