النفط يصعد 2% وسط مخاوف الإمدادات    إطلالة على الزمن القديم    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    التدمير الممنهج مازال مستمراً.. وصدور مذكرتي توقيف بحق نتنياهو وغالانت    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    «الولاء» يتفوق في تشكيلة الحكومة الأميركية الجديدة    وزير الرياضة يوجه بتقديم مكافأة مالية للاعبي فريق الخليج لكرة اليد    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    أرصدة مشبوهة !    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    «إِلْهِي الكلب بعظمة»!    ترمب المنتصر الكبير    فعل لا رد فعل    صرخة طفلة    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    المؤتمر للتوائم الملتصقة    دوري روشن: الهلال للمحافظة على صدارة الترتيب والاتحاد يترقب بلقاء الفتح    خبر سار للهلال بشأن سالم الدوسري    حالة مطرية على مناطق المملكة اعتباراً من يوم غدٍ الجمعة    العوهلي: ارتفاع نسبة توطين الإنفاق العسكري بالمملكة إلى 19.35% مقابل 4% في 2018    عسير: إحباط تهريب (26) كغم من مادة الحشيش المخدر و (29100) قرص خاضع لتنظيم التداول الطبي    إحباط تهريب (26) كجم "حشيش" و(29100) قرص خاضع لتنظيم التداول الطبي    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    الشاعرة مها العتيبي تشعل دفء الشعر في أدبي جازان    الأمن العام يشارك ضمن معرض وزارة الداخلية احتفاءً باليوم العالمي للطفل    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    أمير القصيم يستقبل عدد من أعضاء مجلس الشورى ومنسوبي المؤسسة الخيرية لرعاية الأيتام    مدير عام فرع وزارة الصحة بجازان يستقبل مدير مستشفى القوات المسلحة بالمنطقة    ضيوف الملك: المملكة لم تبخل يوما على المسلمين    سفارة السعودية في باكستان: المملكة تدين الهجوم على نقطة تفتيش مشتركة في مدينة "بانو"    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    الصقور السعودية    «المسيار» والوجبات السريعة    وزير العدل يبحث مع رئيس" مؤتمر لاهاي" تعزيز التعاون    أفراح آل الطلاقي وآل بخيت    رسالة إنسانية    " لعبة الضوء والظل" ب 121 مليون دولار    استهلاك عدد أقل من السجائر غير كافٍ للحد من الأضرار التي يتسبب بها التدخين    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة للمدينة المنورة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجائحة فقه النوازل يبيح استعمال الكحول
نشر في الوطن يوم 12 - 06 - 2020


جوهر الإنسان هو التغير، وجوهر الشريعة هو الثبات.
هي مقولة معروفة بداهة، لكنها غالباً ما تثير جدلاً حول كيف يمكن للقوالب التشريعية الثابتة التي لبت الحاجة فيما مضى، وعلى الأخص في القرون الأولى للإسلام، أن تلبي الحاجات اليوم، مع هذا الكم المتجدد والمتسارع من المستجدات، والمتغيرات، ولعل أبرزها، التفشي غير المسبوق لفيروس يودي بالأرواح، ويفرض معطيات لم يكن أحد يتوقعها أو يمتلك قدرة التنبؤ بها.
وفيما انعقد اجتماع السابقين واللاحقين من المسلمين على صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، خصوصاً أنها كانت خاتمة الشرائع السماوية، يؤكد عضو الجمعية الفقهية السعودية الدكتور صالح بن عطية بن صالح الحارثي على أهمية الأبحاث والأعمال العلمية المختلفة التي تتناول الجوائح مثل جائحة كورونا.
ويعرف الحارثي الجوائح بأنها «الشدائد والمصائب العظيمة والفتن الكبيرة والآفات المهلكة، التي تتعلق بمصالح الناس ومنافعهم، وبالمضار والمفاسد، علاوة على أنها تدخل تحت باب عظيم من أبواب العلم والفتيا هو النوازل».
ويرى الحارثي، أن من أهم المسائل التي فرضت الجائحة طرحها، استخدام المعقمات المشتملة على الكحول، والتوكل والأخذ بالأسباب، وفقه الجنابات ومخالطة الآخرين، وقاعدة رفع الحرج، وقاعدة المشقة تجلب التيسير، وإذا ضاق الأمر اتسع، والأخذ بالرخص أولى من العزيمة حفظاً للنفوس، ولا ضرر ولا ضرار، والتصرف على الرعية منوط بالمصلحة، وللإمام تقييد المباح في حدود اختصاصه مراعاة للمصلحة العامة، وغيرها.
أحكام النوازل
يقول الحارثي «لا تنزل نازلة ولا تجدُّ حادثة إلا لها حكم يُلتمس في نصوص الشريعة الإسلامية، وهي شريعة معجزة إذ هي صالحة لكل زمان ومكان وإنسان، ولا تكون كذلك حتى تكون مبنية على اليسر ورفع الحرج، كما أنها شاملة لجميع مناحي الحياة، فلا تترك شاردة ولا واردة ولا شاذة ولا فاذة إلا ضبطتها، وهذا الإعجاز التشريعي إنما يظهر ويثبت عن طريق الفقه الإسلامي، الذي حقيقته عمل الفقهاء المجتهدين في نصوص الوحيين، إدراكًا للعلل والحكَم، واستنباطًا للأحكام، وتخريجًا عليها، ومراعاة للمصالح والأعراف والعادات».
وهو يرى أن جائحة الفيروس التي ألمّت بالناس، تعلقت بها مسائل، ونشأت بسببها مستجدات، وطرأت طوارئ، وحدثت أمور استثنائية.
استعمال الكحول في التعقيم
يرى الحارثي، من المسائل التي طرحتها الجائحة استعمال الكحول في التعقيم، فالكحول قاتل للجراثيم والميكروبات المختلفة، ويستخدم مطهرا خارجيا للجلد ولتعقيم الأدوات الجراحية وغيرها، ويعد الكحول من أفضل مواد التعقيم في الاستعمالات الطبية، ووجوده في المستحضرات الدوائية ليس بقصد الإسكار، ولا يتعاطاه المريض بقصد اللهو، وباستعماله استعمالا خارجيا لا توجد خطورة تذكر من هذا الاستعمال كمسكر أو كخمر.
ويقول «الكحول المستعمل في المواد الصيدلانية أو في مستحضرات التجميل أو عند الاستعمال الخارجي له في الأمور الطبية طاهرة وغير نجسة على الصحيح، وذلك أنها تختلف شكلا وطعما ورائحة وتركيبا عن الخمر».
ويضيف «وعليه فلا بأس باستعمال الكحول في تطهير الجروح، وقتل الجراثيم، وعموم الاستعمال الظاهري، أي: لا حرج ولا مانع، وذلك للحاجة إلى التداوي ولحصول المصلحة، وما أبيح للحاجة جاز التداوي به، كما أبيح التداوي بالحرير والفضة والذهب، ومن تأمل قواعدَ الشرع الكبار وأصولَه ومقاصده وكلام أئمة الإسلام في باب التداوي لم يتردد في القول بجواز التداوي بالمحرم لغيره، ففي الصحيحين وغيرهما عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «رخص لعبدالرحمن بن عوف، والزبير بن العوام في القُمُص الحرير في السفر من حِكَّة (حساسية في الجلد) كانت بهما، أو وجع كان بهما». وقال الشيخ محمد رشيد رضا «الكحول مادة طاهرة مطهرة، وركن من أركان الصيدلة والعلاج الطبي والصناعات الكثيرة، وتدخل فيما لا يُحصى من الأدوية، وتحريم استعمالها على المسلمين يحول دون إتقانهم لعلوم وفنون وأعمال كثيرة، هي من أعظم أسباب تفوق الإفرنج عليهم، كالكيمياء والصيدلة والطب والعلاج والصناعة، وتحريم استعمالها في ذلك، قد يكون سبباً لموت كثير من المرضى والمجروحين أو لطول مرضهم وزيادة آلامهم». وعلَّق عليه العلامة ابن عثيمين قائلا: «هذا كلام جيد متينٌ رحمه الله تعالى».
وجاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي رقم: 94 (6/16) بشأن الأدوية المشتملة على الكحول والمخدرات «يجوز استعمال الأدوية المشتملة على الكحول بنسب مستهلكة تقتضيها الصناعة الدوائية التي لا بديل عنها، بشرط أن يصفها طبيب عدل، كما يجوز استعمال الكحول مطهرا خارجيّا للجروح، وقاتلاً للجراثيم، وفي الكريمات والدهون الخارجية».
وجاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي رقم: (24) (11/3): «للمريض المسلم تناول الأدوية المشتملة على نسبة من الكحول إذا لم يتيسر دواء خال منها، ووصف ذلك الدواء طبيب ثقة أمين في مهنته».
وقد كان تعقيمُ المساجد، وعدم دخول المصلي إلى المسجد إلا من خلال بوابة للتعقيم قبل هذا الوباء في كثير من البلدان أمرا ذائعا مشهورا، فما بالنا وكورونا عمّ جنبات الأرض، وصار التعقيم إلزاميّا في كل المباني والمصالح والمؤسسات والقطاعات».
تعمد نقل المرض
يعرج الحارثي لمسألة ثانية، ويقول «إذا كان تعمد نقل كورونا قد تم على وجه الإفساد العام وبغرض إشاعة الوباء بين المسلمين، فهو صورة من صور السعي في الأرض فسادا، قال تعالى {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، وقال ابن كثير رحمه الله «الإفساد في الأرض يطلق على أنواع من الشر»، حتى قال كثير من السلف، منهم سعيد بن المسيب: إن قرض الدراهم والدنانير (نحو تزييف العملة وغشها الآن) من الإفساد في الأرض، وقد قال الله تعالى {وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد}».
وجاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي رقم: «90 (7/9)» بشأن مرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز) والأحكام الفقهية المتعلقة به «تعمد نقل العدوى بمرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز) إلى السليم منه بأية صورة من صور التعمد عمل محرم، ويعد من كبائر الذنوب والآثام، كما أنه يستوجب العقوبة الدنيوية وتتفاوت هذه العقوبة بقدر جسامة الفعل وأثره في الأفراد وتأثيره في المجتمع.
فإن كان قصد المتعمد إشاعة هذا المرض الخبيث في المجتمع، فعمله هذا يعد نوعاً من الحرابة والإفساد في الأرض، ويستوجب إحدى العقوبات المنصوص عليها في آية الحرابة.
وإن كان قصده تعمُّد نقل العدوى لشخص بعينه، وتمت العدوى، ولم يَمُتْ المنقول إليه بعد، عُوقب المتعمد بالعقوبة التعزيرية المناسبة وعند حدوث الوفاة ينظر في تطبيق عقوبة القتل عليه.
وأما إذا كان قصده إعداء شخص بعينه ولكن لم تنتقل إليه العدوى فإنه يعاقب عقوبة تعزيرية».
قضية التوكل
يتناول الحارثي مسألة الاعتماد على الله والأخذ بأسباب الوقاية والعلاج والتعارض المتوهم، ويقول «ينبغي التبصر في قضية التوكل والاعتماد على الله والأخذ بالأسباب (الوقائية والتدابير الاحترازية للوقاية والعلاج من وباء كورونا)، وفقههما الفقه الصحيح في ضوء كلام أهل العلم، فعلماء المسلمين على أن التوكل الصحيح، إنما يكون مع الأخذ بالأسباب، وبدونه تكون دعوى التوكل جهلا بالشرع وفسادا في العقل، بل إن تأمل تعريف التوكل يحل إشكال التعارض المتوهم بين التوكل وفعل الأسباب المأذون بها شرعا، فالتوكل هو «الاعتماد على الله في حصول المطلوب ودفع المكروه مع الثقة به وفعل الأسباب المأذون فيها». وقد ثبت في الكتاب والسنة الصحيحة الحث على الأخذ بالأسباب مع التوكل على الله، لكن من أخذ بالأسباب واعتمدها فقط وألغى التوكل على الله فهو مشرك، ومن ألغى الأسبابَ فهو جاهل مفرط مخطئ، والمطلوب شرعا هو الجمع بينهما.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية «وإذا قَدَّر - أي الله تعالى - للعبد خيرا يناله بالدعاء لم يحصل دون الدعاء، وما قدره الله وعلمه من أحوال العباد وعواقبهم فإنما قدره الله بأسباب يسوق المقادير إلى المواقيت، فليس في الدنيا والآخرة شيء إلا بسبب، والله خالق الأسباب والمسببات. ولهذا قال بعضهم: الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابا نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع. ومجرد الأسباب لا يوجب حصول المسبَّب؛ فإن المطر إذا نزل وبذر الحب لم يكن ذلك كافيا في حصول النبات بل لا بد من ريح مربية بإذن الله، ولا بد من صرف الانتفاء عنه؛ فلا بد من تمام الشروط وزوال الموانع وكل ذلك بقضاء الله وقدره».
ودليل الجمع بين التوكل والأخذ بالأسباب من فعله -صلوات الله وسلامه عليه- وهو إمام المتوكلين وسيدهم، أنه كان يأخذ الزاد في السفر، ولما خرج إلى أُحُد لبس درعين اثنين، ولما خرج مهاجرا أخذ من يدله الطريق ولم يقل: سأذهب مهاجرا وأتوكل على الله، ولن أصطحب معي من يدلني الطريق، وكان يتقي الحر والبرد، ولم ينقص ذلك من توكله.
أهمية الأسباب الشرعية
يؤكد الحارثي على أهمية الأسباب الشرعية، ويعدها مهمة كالأسباب الحسية بل أهم، ويقول «يُغْفِلُ أو يَغْفَلُ بعض الناس عن الأسباب الشرعية رغم أهميتها الكبرى ومصلحتها العظمى وفائدتها المثلى، ومن ذلك دعاء الله والتضرع إليه بالعافية والسلامة من هذا الوباء وسائر الأسقام والأدواء والأمراض ولا سيما سيئها ومنكراتها، ومن الدعاء في ذلك «اللهم إني أعوذ بك من البرص والجنون والجذام ومن سيئ الأسقام»، و»اللهم جنبني منكرات الأخلاق والأهواء والأعمال والأدواء»، و»اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء»، وفي أدعية الوحيين وأذكار الطرفين وسائر الأذكار ما يشفي ويكفي. ولكن من يخطب الحسناء يصبر على البذل! ومن الأسباب كذلك الرقية فهي من أبلغ الأسباب الشرعية الناجعة في رفع البلاء والمعافاة منه.
قاعدة الأخذ بالرخص
يشير الحارثي إلى قاعدة الأخذ بالرخصة أولى من العزيمة حفظا للنفوس، ويوضح «من المقرر لدى أهل الأصول أن الرخصة قد تنتهي إلى أن تصير واجبة، وذلك إذا كان في الأخذ بها حفظُ النفوس التي هي حقٌّ لله تعالى، وهي أمانة عند المكلفين، فيجب حفظها ليستوفي الله تعالى حقه منها بالعبادات والتكاليف، لأنها إذا حُفظت وُجد منها العبادات المتكررة المتعددة الأنواع. فما بالنا إذا كان الأخذ بالرخص سببا لإحياء نفوس عدة وليس نفسا واحدة. ولا غرابة فالحفاظ على النفس البشرية من مقاصد الشريعة الأساسية التي تشمل إضافة إلى حفظ النفس: حفظ كل من الدين، والعقل، والنسل، والمال، قال الله تعالى {مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}. قال الشاطبي: «اتفقت الأمة -بل سائر الملل- على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس، وهي: الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل، وعلمُها عند الأمة كالضروري».
المشقة تجلب التيسير
يرى الحارثي أن قاعدة «المشقة تجلب التيسير» إحدى القواعد الخمس الكبرى، ومعناها: الأحكام التي ينشأ عن تطبيقها حرجٌ على المكلف، ومشقة في نفسه، أو ماله، فالشريعة تخفِّف في تلك الأحكام، وجميع رخص الشرع وتخفيفاته مخرَّجة على هذه القاعدة كما قال الفقهاء.
ومن تطبيقات هذه القاعدة: تقليل الأعداد حتى لو كان التجمع لأداء العبادات الواجبة فضلا عن المؤكدة والمستحبة، تحقيقا لمصالح أعظم، ودرءا لمفاسد تزيد على مفاسد ترك هذه الواجبات والسنن. فيكتفى بالحد الأدنى، فيمكن أن تقام شعيرة الحج بالعدد اليسير، ويمكن أن تقام الجماعة بواحد مع الإمام، ويمكن أن تقام الجمعة بثلاثة مع الإمام في المسجد الجامع. قال النووي: «إذا صلى الرجل في بيته برفيقه، أو زوجته، أو ولده، حاز فضيلة الجماعة، لكنها في المسجد أفضل». وكلام النووي عام وهو في ظل جائحة فيروس كورونا أولى وأحرى، نعم لا خلاف بين أهل العلم أن صلاة الرجل في المسجد أفضل من صلاته في بيته، لكن هذا في الظروف العادية، وسُئِلَ سفيان عن المجدور (المصاب بالجدري ومثله المصاب بالجذام أو غيرهما من الأمراض المعدية والأوبئة الفتاكة سريعة الانتشار ككورونا) إذا مات كيف يُغسل؟ قال: يُغسل فإن لم يقدروا على غسله صبوا عليه الماء صبًّا. وإن خيف تهري لحمه (أي: تقطُّعه بشدة) يُمِّمَ، ومن ذلك إسقاط بعض الواجبات عمن يتعامل مع المصابين أو المتوفين حتى بلغ الأمر إلى حد الترخيص في ترك تغسيل الميت إذا خيف على غاسله الضرر أو انتقال العدوى إليه من جثة الميت، قال ابن حجر الهيتميّ: «أو خِيف على الغاسل ولم يمكنه التحفظ (يُمِّمَ) وجوبًا كالحيِّ». قال الكرديّ: «(أو خيف على الغاسل) من سراية السمِّ إليه». وجاء في توصيات مجمع الفقه الإسلامي الدولي: «يجب تغسيل الموتى وتكفينهم ولو برش الماء فإن تعذّر فالتيمم، فإن تعذّر يسقط وجوب الغسل.. يجوز غسل موتى الأوبئة بأجهزة التحكم عن بعد» وفي توصياته أيضا «ويجوز للعاملين في المجالات الصحية والأمنية ومثيلاتها في هذه الجائحة، الأخذ برخصة الجمع بين الصلوات، جمعَ تقديم أو تأخير، قياساً على السفر بجامع المشقة والحاجة، أو الجمع الصوري لمن لا يصح في مذهبه الجمع بين الصلوات».
تصرف الإمام
يتناول الحارثي قاعدة تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة، ويقول «هي قاعدة فقهية مبنية على قول الرسول صلى الله عليه وسلم «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام راع ومسؤول عن رعيته». والمراد بها أنّه يجب على من تولى شيئاً من أمور المسلمين، أن تكون تصرفاته مبنية على حفظ مصالحهم، فمتى رأى أنّ وضع هذا النظام تحصل به مصلحة المسلمين، ويبعد ضياع حقوقهم جاز له وضعه.
جاء في توصيات مجمع الفقه الإسلامي الدولي «يجوز للدول والحكومات فرض التقييدات على الحرية الفردية بما يحقق المصلحة سواء من حيث منع الدخول إلى المدن والخروج منها، وحظر التجوّل أو الحجر على أحياء محددة، أو المنع من السفر، أو المنع من التعامل بالنقود الورقية والمعدنية وفرض الإجراءات اللازمة للتعامل بها، وتعليق الأعمال والدراسة وإغلاق الأسواق، كما أنه يجب الالتزام بقرارات الدول والحكومات بما يسمى بالتباعد الاجتماعي ونحو ذلك، ما من شأنه المساعدة على تطويق الفيروس ومنع انتشاره؛ لأن تصرّفات الإمام منوطة بالمصلحة».
تقييد المباح
تطرق الحارثي إلى قاعدة أنه «للإمام تقييد المباح في حدود اختصاصه مراعاة للمصلحة العامة»، وهي قاعدة تجمع بين الأصول والفقه، وتبرُز في النوازل والأحكام، وتظهر في السياسة الدينية، وتكتنفها المقاصد الشرعية، وهي قاعدة من الأهمية بمكان ولا سيما في الظروف الاستثنائية ومنها الأوضاع الراهنة، ومعناها: «اختيار الإمام أحد أفراد الأمر المباح الذي جاز فعله أو تركه أصلا، مع إلزام الناس بهذا الاختيار سواء بمنعهم من الفعل أو بإلزامهم به». فللإمام أو ولي الأمر وضع تقييدات للمباح بما يراه محققًا للمصلحة العامة، كما أن له الأمر والإلزام به، وكل ذلك نابعٌ من السلطات المخوَّلة له، كأن يتدخل بتحديد الأسعار بيعا وشراء لضبط السوق إذا اختل أمره، وكمنع السفر في أوقات معينة أو لبلاد محددة، أو الأمر بالسفر في أوقات معينة ولبلاد محددة، وتحديد طرق معينة للسيارات وأخرى للمشاة فقط، وغير ذلك مما يتعلق بالطريق العام، وما هو من قبيل السياسة الشرعية التي تُقَدَّم فيها المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، حسب تقدير أهل العلم أو ولي الأمر؛ وذلك لأن تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة. وقد نص أهل العلم على أن من حق ولي الأمر تقييد المباح للمصلحة العامة وحينئذ لا تجوز مخالفته في ذلك.
والأصل في ذلك أن طاعة ولي الأمر واجبة، لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}. وأولو الأمر في المعرفة هم العلماء، وفي السياسة هم الأمراء والولاة والحكام. قال الطبري «فإذ كان معلوما أنه لا طاعةَ واجبةٌ لأحدٍ غيرِ الله أو رسوله أو إمام عادل، وكان الله قد أمر بقوله «أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم» بطاعة ذوي أمرنا، كان معلوما أن الذين أمر بطاعتهم -تعالى ذكره- من ذوي أمرنا، هم الأئمة ومن ولَّوْه أمر المسلمين، دون غيرهم من الناس، وإن كان فرضا القبولُ من كل من أمر بترك معصية الله ودعا إلى طاعة الله، وأنه لا طاعةَ تجب لأحد فيما أمر ونهى فيما لم تقم حجةُ وجوبه، إلا للأئمة الذين ألزم الله عباده طاعتهم فيما أمروا به رعيتهم مما هو مصلحةٌ لعامة الرعية، فإن على من أمروه بذلك طاعتَهم، وكذلك في كل ما لم يكن لله معصية. وإذ كان ذلك كذلك، كان معلوما بذلك صحةُ ما اخترنا من التأويل دون غيره».
أهم مسائل فقه النوازل المطروحة حاليا
- استخدام المعقمات المشتملة على الكحول
- التوكل والأخذ بالأسباب
- فقه الجنابات ومخالطة الآخرين
- قاعدة رفع الحرج
- قاعدة المشقة تجلب التيسير
- إذا ضاق الأمر اتسع
- الأخذ بالرخص أولى من العزيمة حفظاً للنفوس
- لا ضرر ولا ضرار
- التصرف على الرعية منوط بالمصلحة
- للإمام تقييد المباح في حدود اختصاصه مراعاة للمصلحة العامة
- أهمية الأسباب الشرعية
- المشقة تجلب التيسير
- تصرف الإمام
- تقييد المباح


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.