ليس التيسير ورفع الحرج قاعدة فقهية فحسب عبر عنها الفقهاء بقولهم"المشقة تجلب التيسير"وقول الإمام الشافعي:"الأمر إذا ضاق اتسع"، بل التيسير ورفع الحرج مقصد من مقاصد الشريعة، والكتاب والسنة يدلان على ذلك بصريح النص في مواضع عدة، يقول تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ. وفي الحديث الصحيح: إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ولكني بعثت بالحنيفية السمحة. وقالت عائشة:"ما خير رسول الله بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه"، وإنما قالت:"ما لم يكن إثماً"لأن ترك الإثم لا مشقة فيه. وإذا كانت النصوص الشرعية المتقدمة جاءت لتقرير قاعدة التيسير ورفع الحرج في أمور الدين عامة، فإن قصد التيسير يظهر في الحج بخصوصه، فها هو رسول الله يعلنها في حجة الوداع، فيما أخرجه البخاري من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص أن رسول الله وقف في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه، فجاءه رجل، فقال: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح فقال:"اذبح، ولا حرج". وجاء آخر، فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي؟ قال:"ارم، ولا حرج". فما سئل النبي عن شيء قدم ولا أخر إلا قال:"افعل ولا حرج". ولأن الحج عبادة قرنت بالاستطاعة نصاً، والحج في كثير من أحكامه مبني على التخيير، والتخيير أساس التيسير، والمتأمل لفقه المناسك يتبين له فقه التعامل مع المشقات في الحج، لاسيما مع وجود الخلاف القائم وعدم وجود النص القاطع، يقول ابن القيم في تغير الأزمنة، والأمكنة، والأحوال:"هذا فصل عظيم النفع جداً، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يُعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وحكمته الدالة عليه، وعلى صدق رسوله". وتغير الزمان المشار إليه هو تغير أحوال الناس، فالحجيج الذين كانوا يعدون بالآلاف أصبحوا يعدون بالملايين، والأنفس القليلة التي كانت تموت في موسم الحج أصبحت تعد بالمئات، ومحل الشاهد منه أن الإبقاء على أحكام الجزئيات التي تخالف مقاصد الشريعة، وتؤدي إلى مشقة وإعنات مخالف لروح الشريعة وغلط، فالتزام زمن الرمي مع موت عشرات الحجاج وإصابة المئات، والتقيد بمكان المبيت مع انعدام القدرة المادية على استئجار خيمة في منى صار ثمنها يعادل أجرة بيت، والمبيت في الطرق والممرات وما يتسبب فيه من أذية للحجاج لاشك أنه خلاف نصوص الشريعة ومقاصدها. إن على علماء العالم الإسلامي أن يتبنوا مشروعاً فقهياً يهدف لنشر فقه التيسير في مناسك الحج، وأن يعاد النظر في كثير من الفتاوى التي تلزم الناس بالدم لنفرتهم إلى مزدلفة قبل الغروب، أو لفوات مبيت ليلة من ليالي التشريق، وأن تُتناول النصوص التي جاءت بالتوسعة في وقت الرمي، وجمع طواف الإفاضة مع الوداع إلى غير ذلك من الأحكام التي تنشر مظاهر التيسير، وتدل على فقه عميق بمقاصد الشريعة، أعان الله حجاج بيت الله على إتمام نسكهم، وتقبل منهم. * داعية وأكاديمية سعودية. [email protected]