يقول أرنولد: إن ثورة أهل السنة ضد المعتزلة بلغت من النجاح في إتلاف كل مؤلفات هذه الفرقة حداً جعل المؤرخ مضطراً حتى الآن إلى الرجوع في معرفة تاريخهم ومذاهبهم إلى مؤلفات قوم نظروا إليهم كما ينظرون إلى الزنادقة، وكتبوا عنهم لذلك بروح التعصب. وفي حقيقة الأمر قامت السلطة العباسية عند تسلم المتوكل الخلافة بعمل متقن ضد «شياطين القدرية»، ومنذ ذلك الحين وحتى الآن ما زال فكر المعتزلة يعتبر هرطقة ينبغي مقاومتها. ولم يضطهد المتوكل الفكر الحر وحسب بل تجاوز ذلك إلى الأقليات الدينية إذ أمر أهل الذمة «بلبس هذه الطيالس العسلية، ومن أراد لبس قلنسوة المسلمين فيلجعل عليها زرين...»، وقد واصل الخلفاء في القرن الخامس الهجري هذا التقليد، ففي عام 429ه صدر توقيع الخليفة بإلزام أهل الذمة ارتداء ملابس يعرفون بها عند المشاهدة، واستدعى لذلك جاثليق النصارى ورأس جالوت اليهود في جمع حافل من الإشراف والوجوه فقالوا: السمع والطاعة. وأما في فترة سيادة فكر المعتزلة فإننا نجد صورة مختلفة تماما يقول آدم متز: وفي سنة 200ه أراد الخليفة المأمون أن يصدر كتابا لأهل الذمة يضمن لهم حرية الاعتقاد وحرية تدبير كنائسهم، بحيث يكون لكل فريق منهم مهما كانت عقيدتهم ولو كانوا عشرة أنفس، أن يختاروا طريقهم ويعترف لهم بذلك، ولكن رؤساء الكنائس هاجوا وأحدثوا شغبا، فعدل المأمون عن إصدار الكتاب. وما أصاب أهل الذمة ليس أكثر من مزاح بريء إذا ما قورن بالقمع الدموي الذي وجه إلى الفكر المتعقلن، وإذا أخذنا المعتزلة كمثال فإن القمع تعدى الإرهاب وإتلاف كتبهم إلى تشويههم بكل وسيلة ممكنة. يتحدث ابن قتيبة عن «النظّام» فيقول:«شاطر من الشطار يغدو على سكر ويروح على سكر ويبيت على جرائره ويدخل في الأدناس ويرتكب الفواحش والشائنات»، ويقول عنه الأسفراييني: «وكانت سيرته الفسق والفجور فلا جرم إن كانت عاقبته أنه مات سكرانا...»، بينما يروي مصدر موثوق وهو الخياط في كتابه الانتصار عن النظام في لحظاته الأخيرة أن كل همه كان متوجها إلى تأكيد فكرة التوحيد ذات الأهمية البالغة في مذهب «النظّام»، ولكن هذه لم تسلم من التشويه، فقد ذكر ابن حزم نقلا عن ابن الراوندي أن «النظّام» مع علو طبقته في الكلام وتمكنه وتحكمه في المعرفة تسبب إلى ما حرم الله عليه من فتى نصراني عشقه لأن وضع كتابا في تفضيل التثليث على التوحيد». ولا نحتاج إلى مجهود كبير لمعرفة الأسباب الكامنة وراء هذه الهجمة الضارية، فلقد كان المعتزلة يعملون على عقلنة الفكر الإسلامي، وإصلاح الخلافة وكان هذا تعبيرا عن الالتقاء بين مصالح طبقة التجار والمثقفين ومصالح عامة الشعب. إن الفئات الحاكمة قد اعتمدت على قاعدة عريضة من المزارعين في مجتمع زراعي يعيش في ظروف تخلف تقني حيث حياة الإنسان تحكمها قوى الطبيعة التي لا سيطرة له عليها. *1977 * أديب وصحافي أردني «1932-1989»