شغلت قضية الفلسفة العربية الاسلامية مؤرخي الفلسفة في الغرب، اما لنفي أصالتها، او لتثبيت ابداعاتها. وركزت الدراسات الاستشراقية على المؤثرات والمرجعيات الفكرية الخارجية من الديانات والثقافات والحضارات الشرقية والعربية المحيطة والسابقة على الاسلام، وعلى رغم ان القضية تبدو بحكم المنتهية بما انتهت اليه، الا ان ما يثيرها اليوم هو موقف الفكر الإسلامي المعاصر من تاريخه ومن تراثه الفكري. فهل يمكن تأصيله بالفلسفة الاسلامية من الكندي الى ابن رشد؟ وما المقصود بالفكر الاسلامي؟ وهل يتميز عن الفكر العربي المعاصر؟ ام هو احد تياراته واتجاهاته المحددة؟ وما هي اشكاليته المركزية؟ هل هي الاصلاح؟ هذا ما أود ان أشير اليه في هذه المقالة المكثّفة، علّني أعود اليها في ما بعد بطريقة موسعة وموثقة. تعتبر عملية تأصيل المقولات الفلسفية بشكل عام قضية شائكة، فلا يوجد حد يتوقف عنده البحث الفلسفي عن التأصيل"اي الوصول الى النواة الأصلية المؤسسة للفكرة الفلسفية، التي تنمو وتتطور وتكتمل عبر انتقالها من ثقافة الى أخرى، ومن مفكر الى آخر، فالمؤثرات اليونانية في الفلسفة الاسلامية يمكن ردها الى أصول أقدم منها في الفكر الشرقي القديم، وهذا ما أثبته أكثر من مؤرخ معاصر، أما إذا أردنا التوقف عند المؤثرات المباشرة لدواع منهجية وموضوعية، او لأسباب ذاتية مغرضة تتعلق بمركزية النظر العقلي والفلسفي الغربي بالنسبة الى العالم، فيمكننا القول ان الفلسفة العربية الاسلامية لم تبدأ الا عندما نشطت الترجمة، وانتهى علم الكلام، او استنفد أغراضه الفكرية، واذا أردنا الحفر التاريخي المقارن"على سبيل المثال في علم الكلام الاسلامي، فيمكننا التوصل للتأثير الحاسم من اللاهوت المسيحي الشرقي فيه، الذي خاض قبله في صفات الذات الإلهية وماهيتها، وطبيعة السيد المسيح، والقضاء والقدر، ومن الأهمية بمكان ان ننوّه الى ان السريان المسيحيين الذين تحمّلوا وحملوا مسؤولية ترجمة العلوم والفلسفة من اليونانية الى العربية، كانوا مسيحيين على المذهب النسطوري، الذي قال بحريّة الاختيار، وأثر في المعتزلة بشكل خاص، بعكس المسيحيين اليعاقبة الذين قالوا بالجبر، ورفضوا الاختيار، وبخاصة مسيحيي نجران وتغلب. وبقي علم الكلام اي إثبات حقائق الإيمان بالأدلة العقلية، وتفجير الطاقة الدلالية للنص، والذهاب الى أقصى حدود التأويل العقلي، بعيداً من التشبيه والمعاني المباشرة لآيات الكتاب، وقد واجه علم الكلام"وبخاصة المعتزلة تيارات فكرية لا حصر لها، ونصّبوا أنفسهم جنداً للدفاع العقلي عن الايمان ضد التيارات الفكرية الأخرى: الاسلامية، وغير الاسلامية، وساهموا بعقلنة النص - كما قلت - بعيداً من الحرفية والتشبيه، وقالوا بحرية الفرد، والتنزيه المطلق الى حدود التعطيل، وانتشر وقوي تأثيرهم بدعم المأمون وغيره من أركان الخلافة العباسية، وظلوا كذلك حتى أوقفهم الأشعري المعتزلي، الذي انقلب أولاً على نفسه، ومن ثم على شيوخه، وعلى الاعتزال، وتزامن ذلك مع انقلاب الخلافة العباسية، منذ عهد المتوكل على الاعتزال، وشيئاً فشيئاً ترسخ المذهب الأشعري بقدوم السلاجقة الى بغداد، وإزاحة دولة بني بويه الشيعية، الذين سيطروا على الخليفة العباسي، وقد عمل القائد السلجوقي نظام الملك السني الشافعي الأشعري على تكريس المذهب بإنشاء سلسلة من المدارس النظامية لتدريس وترويج المذهب، لتصليب عود الخلافة العباسية التي وجدت نفسها في موقف لا تحسد عليه في مواجهة الكيان الشيعي الفاطمي القوي، الذي زحف من المغرب العربي، وتركز قريباً منها في الشام ومصر، وبنى دولة عقائدية قوية نشطت في تدريس المذهب الشيعي، وبثّ الدعاة، وتشجيع الحركات المناوئة للدولة العباسية. وعلى رغم ذلك كان المذهب الأشعري ينتشر ويترسخ في الحياة الاسلامية في الشرق والغرب، وقدر لهذا المذهب الانتشار بفضل كبار الأعلام من المتكلمين والفقهاء والمفسرين والمفكرين الذين أشاعوا الأشعرية في حياة المسلمين، ورسّخوا مقولاته الأساسية، ومن هؤلاء نذكر الباقلاني 403 ه، والجويني 478 ه، والغزالي 505 ه، والاسفراييني، والشهرستاني، والطبري، وابن خلدون. ودخلت الخلافة العباسية طرفاً في الصراع المذهبي الدائر في حياة المسلمين، منحازة الى الأشاعرة، وقمعت الاعتزال وغير الاعتزال، وصدرت عنها عدة قرارات ومراسم قمعية عممتها على الأمصار الاسلامية لوقف الجدل العقلي، ومحاصرة المعتزلة، وصلت لحدود القتل والنفي، ولكن المفارقة الكبرى، فهي ظهور كبار المعتزلة في زمن المتوكل وما بعده، مثل الجاحظ 255 ه، والجبائي 330 ه، والقاضي عبدالجبار 415 ه حاول المعتزلة الدفاع عن أنفسهم بشتى السبل، ووقف اندفاع الأشاعرة، وانكسرت ثورتهم على يد الخليفة العباسي، وتكرّس المذهب الأشعري مذهباً رسمياً للدولة الاسلامية، وقوي بقوة الدولة، لأن محتواه لم يتجاوز ما قدمه المعتزلة، وبقي الأشاعرة يتمحلون ويماحكون في نظرية الكسب رداً على حرية الاختيار عند المعتزلة من دون جدوى. وحاولوا طيلة العهود الاسلامية التقدم كتيار وسطي في علم الكلام، وفي الفكر الاسلامي، الا ان تلك الوسطية كانت تفتقر لقواعد العقل والمنطق، وقد حاول في ما بعد الماتريدي 330 ه التوسط بين الطرفين من دون جدوى، فتلاشى تأثيره، وتلاشت قوة المعتزلة، وبقي الأشاعرة بقوة السلطان، واشتدت التناقضات الفكرية، والثنائيات التي وقف الأشاعرة منها موقفاً وسطاً، وهي الثنائيات التي تعود أصولها الى الثنائيات الزرادشتية، التي اعترف بها كديانة، وأهلها أهل كتاب، وعلى رغم ذلك بقي المذهب محاصراً بالشك والريبة من جمهور المسلمين، ومن علمائهم السنة وخصوصاً الحنابلة والشافعية، على رغم انتساب الكثير من الأشاعرة الى هذا المذهب، بمن فيهم مؤسس المذهب، واعتبره الحنابلة اعتزالاً بثوب جديد. وهناك اليوم تيارات فكرية تتبنى الاعتزال، وتبني عليه مقولاتها، وحركتها لإحياء الاسلام في العالم المعاصر. وهناك تيارات أخرى انتقائية في الفكر العربي، تنتقي ما تراه من التنوير، والعقلانية عند المعتزلة، وتعمل لإحياء هذه القيم ضد الاتجاهات النصية والأصولية. فهل يمكن تسويغ هذه الاستعادة والبناء عليها؟ وهل يمكن التوفيق بينهما وبين العالم المعاصر"عالم العقلانية النقدية، والانطلاق من ثم الى بناء فكر اسلامي خاص قائم على العقلانية، ويستهدف الاستنارة، ويقطع مع التراث الذي يبدو في مجمله تراثاً نقلياً نصياً، ويعي قدرته وأهميه تبرير ذاته بتجاوز التيارات الاسلامية الأصولية والسلفية الجامدة. واما الاسئلة الأكثر جذرية، التي يمكن طرحها، فمنها ما يأتي: ألم تكن نهاية علم الكلام بشقيه"الأشعري والمعتزلي نهاية طبيعية، بغض النظر عن الصراع والتنافس، حيث استنفد أغراضه ومهماته، ولم يعد قادراً على تجاوز ذاته، او تقديم أكثر مما قدم، حتى لو اتيحت له الفرصة لذلك؟! وعلى هذا الأساس"الا تبدو استعادته او تأصيل الفكر العربي الاسلامي المعاصر بطروحاته العقلية والحرية عملاً لا تاريخياً، وخارج السياق لأنه تجاوز على ما تم انجازه فكرياً واجتماعياً، وعلى ما أنجزه الإنسان من تطور بعد 1200 سنة من لحظة الاعتزال. وهل يمكن للفكر الإسلامي المعاصر تجاوزه والانتماء اليه، وإسناد ذاته بذاته، من دون التضحية بالأصول التي تشكل مرجعية التيارات الاسلامية والسلفية، وتوظيف منجزات العقلانية النقدية، ومناهج البحث العلمي التاريخي في دراسة المعطى الإسلامي، من دون أفكار مسبقة او مسلمات قبلية تقضي على البحث، وتحدد نتائجه سلفاً. واما تأصيل الفكر الاسلامي المعاصر بالفلسفة الاسلامية كامتداد طبيعي لها فقضية أكثر التباساً وارباكاً لأسباب عدة منها: عدم الاعتراف بها كفلسفة عربية اسلامية أصيلة، وبقيت هويتها مدار خلاف يتجاوز دلالة الألفاظ والمسميات المباشرة. فقد نفت تيارات فكرية عنصرية في الغرب أصالتها العربية، وشككت بقدرة الجنس السامي أصلاً على الإبداع الفلسفي والعقلي، ودليلها على ذلك ان معظم هؤلاء الفلاسفة من أصول تركية او فارسية غير عربية، ومن المستشرقين من نفى عنها أصالتها الاسلامية لأسباب منها: أولاً: مساهمة أصحاب الديانات الأخرى مساهمة فاعلة في تشكيلها وتبلورها. ثانياً: لأنها بشكلها ومحتواها بقيت تدور في مركز الفلسفة اليونانية، ومن العرب المحدثين من وقع في هذا الشرك، وسوّدوا الصفحات في اللاهوت الفلسفي لتأصيلها واثبات ابداعها، ومنهم من انحاز لكونها عربية في الأساس"كالتيارات العروبية والقومية، ومنهم من انحاز لكونها اسلامية، ومنهم من اجتهد لحل الخلاف، وقال بهويتها المركبة العربية الاسلامية بالمعنى الحضاري والثقافي للعروبة والاسلام بعيداً من المعنى العرقي والديني للمصطلح، وعلى رغم كفاية هذا المفهوم وتداوله المعاصر، الا انه لا يحل الإشكال الذي نحن بصدده للرد على المعترضين على أصالتها، الذين أصروا ويصرون على مصادرها اليونانية، فهي فلسفة لم تقم لها قائمة بطريقة منظمة ومنهجية إلا بعد ترجمة السريان لكتبها الفلسفية، ونقلها الى العربية، وبقيت مساراتها ومقولاتها وآفاق تطورها مرتبطة بمستوى الترجمة، والتعرف على أصولها الحقيقية، وبخاصة كتب أرسطو، وأفلاطون، وحتى الإرباك والتناقض والغموض، الذي طبع النص الفلسفي الاسلامي فمرده الكتب المنحولة، او الموضوعة من السريان أنفسهم، او الخلط والتداخل بين فلسفة افلاطون وأفلوطين، الذي انتقلت منه ومن الاسكندرية في زمنه"اي زمن خريف الفكر اليوناني الترجمات الفلسفية المختلطة بالمؤثرات المسيحية واليهودية والغنوصية، وعليه فقد جاهد الفيلسوف الفارابي مثلاً للتوفيق بين الحكيمين"أرسطو المنحول، وأفلاطون غير المفهوم، واما ابن سينا الذي شك من البداية بتلك النصوص، فقد نأى بنفسه الى حد ما عن أرسطو، متأثراً بالتيارات الغنوصية الاشراقية، متشككاً بالتراث المنحول والموضوع، واستنزف الفلاسفة المسلمون جهدهم التحليلي في التوفيق بين الحكمة والشريعة، والدفاع عن حق العقل الفلسفي في الوصول والتوصل الى الحقيقة.