تمثل الأصول الخمسة عند المعتزلة تلك الأصول التي نشأت وتشكلت من خلال الواقع العملي للمجتمع الإسلامي وما واجهه هذا المجتمع من مشكلات وقضايا داخلية نشأت من خلاف المسلمين حول قضايا عقائدية ودينية معينة نتيجة لاختلاف رؤاهم الفكرية واجتهادهم حول مسائل أثارت جدلاً محتدماً مثل الخلاف حول حكم مرتكب الكبيرة وغيرها من القضايا. كما تمثل تلك الأصول من جهة أخرى رد فعل لكثير من التحديات الفكرية التي فرضتها مستجدات البيئة ومتطلبات الواقع العملي للمجتمع الإسلامي في مرحلة مهمة من مراحل تطوره الفكري والاجتماعي. وأثر ذلك في طبيعة هذا المجتمع الذي حوى في داخله تيارات متباينة الرؤى والعقائد والأفكار من مذاهب إسلامية وغيرها، سعت للتعبير عن نفسها في شكل مذاهب وفرق مختلفة، تحمل كل واحدة منها أفكاراً ورؤى مذهبية وعقائدية تحاول بثها في البيئة الإسلامية مستخدمة في ذلك مناهج فلسفية وأدلة عقلية ومنطقية. وفي حقيقة الأمر لقد تفجر الصراع الفكري داخل المجتمع الإسلامي منذ اندلعت الفتنة في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه التي لعبت فيها العناصر الدخيلة بقيادة اليهودي عبدالله بن سبأ دوراً فاعلاً وأساسياً بتنقله بين البلدان والأقاليم ليهيج الناس ويبث سمومه وأباطيله. وفي واقع الأمر فإن للحديث عن المعتزلة وما لحق بهم من حيف من خصومهم أدى الى تشويه سمعتهم والنظر إليهم باعتبارهم فرقة ضالة وليس كفرقة من فرق الأمة مجموعة عوامل واعتبارات يجب أن توضع في الاعتبار ويمكن أن نشير إليها على النحو الآتي: 1- موقف الفقهاء والمحدثين المعادي والرافض للمعتزلة على طول الخط: خصوصاً بعد محنة خلق القرآن الذي تسلط فيها المعتزلة على بقية الأمة مستغلين نفوذهم عند الخلفاء من بني العباس منذ عهد المأمون وحتى الواثق. وحاولوا إكراه الناس على اعتناق تلك العقيدة التي تتناقض مع مبدأهم في الحرية من جهة. ومن جهة أخرى مع أصل الإسلام كدين يمنع الإكراه في الدين ومسائل الاعتقاد. ومعلوم ما لقيه الفقهاء والمحدثون من تعذيب وامتحان بسبب تلك المحنة وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل النموذج والقدوة لعلماء الأثر والحديث الذي رفض التهديدات وتحمل التعذيب والسجن ورفض الاعتراف بموقف المعتزلة في قولهم بخلق القرآن. والحق أن المعتزلة هم الذين بدأوا بالسخرية والاستهزاء من الفقهاء والمحدثين. وبالتالي كان موقف الفقهاء والمحدثين نوعاً من رد الفعل بعد سقوط المعتزلة وإبعادهم عن مواقع النفوذ والمسؤولية في عهد المتوكل. 2- غياب فكر المعتزلة وتراثهم: فحتى عهد قريب كان فكر المعتزلة يؤخذ من كتب خصومهم. نتيجة لغياب تراثهم الذي تعرض للضياع والحرق والتنكيل بعدما انقلب عليهم الحكام نتيجة لموقفهم في محنة خلق القرآن، مما ساعد في خلق الصورة السلبية التي رسمها خصوم المعتزلة في كتبهم عن المعتزلة. وظل هذا هو الموقف السائد لأكثر من ألف عام، حتى ذهبت بعثة من معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية في منتصف القرن الماضي إلى اليمن وحصلوا على كتاب المغني في أبواب التوحيد والعدل للقاضي عبدالجبار وغيره من كتبهم التي عرضت فكرهم بصورة حقيقية بعيداً من التحيز والخصومة. 3 - شيوع لغة التعميم في الحديث عن المعتزلة: خصوصاً في مقام الذم والنقد، فيردد بعض الباحثين الآراء التي أطلقها خصوم المعتزلة عليهم في مقام الذم مثل الحرقية والمفنية واللفظية والقبرية وغيرها. كما جمع ما رمتهم به الخصوم من نقائص وعيوب من دون تمحيص في حق الصحابة رضي الله عنهم. فعلى سبيل المثال كلام النظام عن الخبر المتواتر يرمى به المعتزلة ككل. على رغم أن الإنصاف والموضوعية والنزاهة العلمية تؤكد ضرورة نسبة القول لقائله من دون تعميم على المذهب ككل. فالمعتزلة أنفسهم هاجموا من خرج من صفوفهم وتجاوز حد العدل والإنصاف كابن الراوندي ولم يتوانوا عن تكفيره وبيان فساد فكره ومذهبه. 4- اعتياد مؤرخو الفرق ورجال الطبقات التشنيع على المعتزلة في موقفهم من السنة وردهم لخبر الآحاد: وتجاهلوا في خضم ذلك أن كثيراً من رجال المعتزلة كانوا علماء حديث روى لهم الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما. فقد أورد الشيخ جمال الدين القاسمي في كتابه"تاريخ الجهمية والمعتزلة"اثنين وثلاثين من رجال المعتزلة الذين روى لهما البخاري ومسلم كما أن عمرو بن عبيد روى له كتاب السير كابن هشام عن ابن إسحاق قال: حدثني عمرو بن عبيد، عن الحسن عن جابر بن عبدالله: أن رجلاً من بني محارب، يقال له غورث قال لقومه من غطفان ومحارب ألا أقتل لكم محمداً؟ قالوا: بلى، وكيف تقتله؟ قال أفتك به. قال فأقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره فقال يا محمد انظر إلى سيفك هذا؟ قال نعم - وكان محلى بفضة فيما قال ابن هشام - قال فأخذه فاستله ثم جعل يهزه ويهم فيكبته الله ثم قال: يا محمد أما تخافني؟ قال:"لا، ولا أخاف منك؟"قال أما تخافني وفي يدي السيف قال:"لا، يمنعني الله منك". ثم عمد إلى سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فرده عليه". قال فأنزل الله من سورة المائدة"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ11". قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن رومان: أنها إنما أنزلت في عمرو بن جحاش، أخي بني النضير وما هم به فالله أعلم أي ذلك كان. وهذا الحديث الذي رواه ابن هشام عن عمرو بن عبيد عن الحسن عن جابر رواه البخاري وذكره بطريق آخر، وقد روى في كتاب المغازي عند الحديث عن غزوة ذات الرقاع قال: حدثنا إسماعيل قال حدثني أخي عن سليمان عن محمد بن أبي عتيق عن ابن شهاب عن سنان بن أبي سنان الدؤلي عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أخبره أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم قفل معه فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس في العضاه يستظلون بالشجر ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سمرة فعلق بها سيفه قال جابر فنمنا نومة ثم إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا فجئناه فإذا عنده أعرابي جالس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتاً فقال لي: من يمنعك مني؟ قلت الله فها هو ذا جالس ثم لم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أبان حدثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي صلى الله عليه وسلم فجاء رجل من المشركين وسيف النبي صلى الله عليه وسلم معلق بالشجرة فاخترطه فقال تخافني قال لا قال فمن يمنعك مني قال الله فتهدده أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأقيمت الصلاة فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين وكان للنبي صلى الله عليه وسلم أربع وللقوم ركعتان وقال مسدد عن أبي عوانة عن أبي بشر اسم الرجل غورث بن الحارث. وربما هذا ما دفع صاحب الروض الأنف ليعقب عن رواية ابن هشام الحديث عن عمرو باعتباره قدرياً متروك الحديث ولم يكتف بالتشكيك في عمرو فقط، ولكن شكك أيضاً في ابن اسحاق لروايته عن عمرو بن عبيد فيقول:"وأما روايته الحديث عن عمرو بن عبيد فأعجب شيء سياقته إياه عن عمرو بن عبيد، وقد رواه الأثبات عن جابر، وعمرو بن عبيد متفق على وهن حديثه وترك الرواية عنه لما اشتهر من بدعته وسوء نحلته فإنه حجة القدرية فيما يسندون إلى الحسن - رضي الله عنه - من القول بالقدر وقد برأه الله منه وكان عندالله وجيهاً". وأما عمرو بن عبيد بن باب، فقد كان عظيماً في زمانه عالي الرتبة في الورع حتى افتتن به وبمقالته أمة فصاروا قدرية، وقد نبز بمذهبه قوم من أهل الحديث فلم يسقط حديثهم لأنهم لم يجادلوا على مذهبهم ولا طعنوا في مخالفيهم من أهل السنة كما فعل عمرو بن عبيد. 5- عامل آخر ساعد في تشويه صورة المعتزلة لدى الجماهير ثناء المستشرقين عليهم واهتمامهم بهم. فقد أشاد المستشرقون بدور المعتزلة كرواد للفكر العقلي مثل جولدتسيهر، وكمدافعين عن حرية الإنسان مثل مونتغمري وات الذي يرى أنهم في حديثهم عن الحرية الإنسانية كانوا مثل أنصار مبادئ الحرية المعاصرة. وفي تعاملهم مع الفكر الوافد من فلسفات ومذاهب مختلفة - مثل بيترز - ازدهر الاهتمام بها في شكل مكثف في عهد المأمون صديق المعتزلة ونصيرهم. وربما لكل هذا أطلق عليهم الفريد جيوم لقب: المجددون في الإسلام. ففي خضم الإنتاج الكبير للاستشراق حظيت المعتزلة بنصيب وافر من الدراسات والبحوث التي أبدت اهتماماً ملحوظاً ساعد بالتأكيد في الاتجاه إلى دراسة أفكارهم وتبني مواقفهم في كثير من الموضوعات والقضايا. هذه بعض الملاحظات المنهجية حول الخلافات التي ثارت حول مذهب المعتزلة حتى نكون على بينة عن طبيعة الخلفيات والموروثات التاريخية والمذهبية التي كانت وراء الصورة المتناقضة حول كثير رجال الاعتزال، لدى أنصاره من جهة، ولدى خصومه من جهة أخرى. * أكاديمي مصري