حدثني صاحب لي عن همٍّ لازمه الليل والنهار، يقول كنت إنساناً حيوياً أقوم بجميع الأنشطة الحياتية المطلوبة مني خير قيام، وعلى المستويات كافة، وذات يوم طلبت مني العائلة إحضار سائق خاص، كنت أرفض بناء على عدم الحاجة له، والتزامي الكامل والمُطلق بالمُتطلبات الحياتية بلا استثناء، في نهاية المطاف استجبت تحت ضغط الإلحاح المُستمر، وأتى السائق وقام بجميع الأدوار الحيوية التي كنت أقوم بها، وخلال فترة بسيطة اعتمدت عليه بشكل كلي، وبدأت تتسلط عليّ أفكار مُتطفلة «Intrusive Thoughts» كما تسمونها في مجالكم، من أن السائق سوف يرحل وبلا رجعة، ووجدت نفسي أَبْني على ذلك نتائج تتلخص في قراءة حياتي دونه، وكيفية معيشتي بعده وما يترتب على سفره واستحالة إدارة الحياة من غيره وهكذا. تحول الوضع إلى قلق شديد وترجم لسلوكيات تتعلق باسترضاء السائق بين الحين والآخر وزيادة راتبه، ليصل الأمر إلى أنه أصبح صاحب قرار أسري سيادي، مع العلم أنني كنت سابقا من يُدير ملف حياتي وحياة أسرتي من ألفه إلى يائه. ماذا حصل لي؟ يُحدثنا في المُقابل الجراح الأمريكي أتول قواندي «Atul Gwanadi» أستاذ الجراحة والسياسات الصحية بكلية الطب والصحة العامة بجامعة هارفارد الشهيرة في كتابة «Being Mortal»، بشيء نعرفه جميعا وندركه ونعيشه، وهو أن نهاية كل حي مهما طال عمره وامتد حبل حياته هو الموت، وهذا ليس بجديد، ومربط الفرس ليس في ذاك الركن من المكان، وإنما وصفه لوقوف الطب مكتوف الأجنحة، وعجزه الذريع مهما وصل إليه في إيقاف هذه النهاية الحتمية «Determinism»، رغم أنه تصدى للعديد من الأمراض والجائحات الصحية، وحقق إنجازات صحية غير مسبوقة، وأصدق دليل حسي مُعاش هو زيادة مُتوسط أعمار البشرية -بعد مشيئة الله- إلى ما يُقارب نهاية القرن منذ الولادة، وأصبح المُهدد الوحيد للموت هو الشيخوخة التي عجز عنها الطب لتاريخه. وصف أتول محاولات الممارسين الصحيين لمساعدة الناس على البقاء «Survivorship» بالأمر المُحال، والمرادف لذلك كله هو السعي إلى تحسين جودة حياتهم ما قُدر لهم أن يعيشوا بسلام، من خلال إكسابهم أنماط سلوكيات حياتية صحية، وتغيير إدراكهم لواقعهم المُعاش، وتحسين مهارات التواصل فيما بينهم، وزيادة حبال الوصل والتواصل الاجتماعي، وعيش اللحظة الآنية «Here and Now»، الجميع سوف يجعل الحياة ذات معنى، والنهاية الحتمية قادمة لا محالة، ولكن دون انتظار! كم هو شعور مؤلم ومؤذ نفسيا وأنت تنتظر الرحيل وإن بعد!!! كلا الصاحبين «صاحبي وسائقه وأتول قواندي»، فتحوا الباب على ما يدور هذه الأيام ونحن نواجه جائحة تفشي كورونا، ضرب الوباء المعمورة برمتها، لم تسلم منه بقعة أرضية ومن تداعياته، أُصيب به ما يزيد على المليون ونصف المليون، مات منهم عشرات الآلاف وتعافى المئات وما زال يلقي بظله الثقيل على الكرة الأرضية إلى أن يشاء الله. تبذل المحاولات الطبية ليل نهار، لفهم جزئية الفيروس «Molecular» وإعداد لقاح يمنع وإنتاج دواء مضاد له، سوف يصل العلم -بمشيئة الله- لهذه النهاية السعيدة، ولربما سوف يُصبح كورونا في كتب التاريخ الطبي، ولكن هناك القادم بهذه الصورة أو بصورة أخرى مختلفة. ليست القضية تشاؤمية كما قد يُعتقد، لكنها سنن كونية ماضية لا محالة. المطلوب منا جميعا ألا نُسلم أنفسنا لسائق، ولا للطب والصحة فقط، ونعتقد أننا لا نستطيع أن نفعل شيئا، نصبح ونمسي مكتوفي الأيدي ومسلوبي الإرادة. أبدا لدينا الكثير نفعله، يستطيع صاحبي ممارسة حياته من جديد دون سائق، ونستطيع ممارسة حياتنا بجودة عالية من خلال أنماط سلوكية صحية، والتي سوف تفضي لجودة حياة نستحقها، نعيش بسعادة ما حيينا، ونرحل بسعادة متى ما كتب الله ذلك علينا، ولا نهمل الطب والصحة. لا نتكل ولا نتواكل، لن نعيش ثانية واحدة فوق ما كُتب لنا، لا نبحث عن البقاء المُطلق، فلن يكون! والبحث الحقيقي عن عيشة هنية وسعادة بالغة، وأن نعيش اللحظة والآنية بتأمل «Meditation»، مثل هذا يمتد أثره لجهازنا المناعي ليكن حصيناً ومُحصناً وفكرنا، ليصبح سليما في قراءة الواقع «Mind» وبدننا، ليكن قويا ومُقوِّيا، إنها العلاقة ما بين السلوك والدماغ والمناعة «Psychoneuroimmunology» ، إنه الوجه الآخر الجديد للطب التقليدي، إنه الطب السلوكي وتطبيقاته ودمجه مع الطب التقليدي، إنه الغائب المُنتظر، لا شك أن ذلك سوف يُجير «كحسنة» لفيروس كورونا في إعادة قراءة الواقع الصحي من جديد، ما زال للحديث بقية.