رحم الله الدكتور طه حسين وأسكنه الجنة، فقد سمعت له قبل وفاته بسنتين حديثا بالإذاعة المصرية التي زارته في منزله الذي سماه «الرامتان» تثنية «رامة» وبنيناه على الحكاية، لأن طه حسين سمى منزله بمثنى «الرامة». زارت الإذاعة المصرية عميد الأدب العربي وسألته: كيف يقضي أوقاته بعد أن ألزمته الشيخوخة سكنه، فقال: في تلاوة القرآن الكريم وسماعه من الإذاعة. فسألته أيسمع التمثيليات الإذاعية، فأجاب: إذا كانت بالفصحى. فسألته عن السبب، فقال: إنني لا أحب أن أسمع غير الفصحي، وإن العامية تضايقني إلى حد الاشمئزاز والتقزز. وأخذ الدكتور طه حسين يهاجم العامية ويحمل عليها بعنف لا مزيد عليه، ودعا إلى اتخاذ الفصحى فهي وحدها لغة الأدب والعلم والفكر. وبعض الكتاب يظنون أن المسرح لا يصح بغير العامية، ومن هؤلاء الكتاب الأستاذ مصطفى زين الذي كتب في «المجلة» السعودية مقالا ذهب فيه إلى أن «الأفضل الإبقاء على مسارح عربية عدة بلهجات مختلفة من توحيدها تحت سلطة اللغة الأم، فنخسر عندها التنوع ونخسر الحرية التي تنتهجها اللهجات العامية». وهذا الذي زعمه يدل على جور في الحكم، فاللهجات العامية لا تتيح الحرية وإنما تتيح الفوضى، وليست الفوضى حرية. حرية العامية تشبه حرية القاتل الذي بيده سكين يطعن به الضحية كيفما يتفق له الطعن، أما الطبيب الجراح فهو الذي تمكنه الحرية المكبوحة بالعلم والدراية من القطع في حرية مأمونة. الحرية يملكها القادر على الفصحى، أما حرية العاجز عن الفصحى فما هي إلا فوضى العامية، وليست هذه الفوضى التي فهمها الكاتب على أنها حرية إلا سمة العجز والمرض، وليست آية على الصحة والاقتدار. والمسرحية المحلية محصورة في بلدها ولا يفهمها غير أهلها، فلو عرضت على السعوديين مسرحية بلغة الجزائر العامية لما فهموها، ولو كانت من نوع «الكوميديا» لما ضحك لها أحد منهم، لأن السعوديين لا يفهمون عامية الجزائر. فالعامية سجينة في بلدها وغير مفهومة عند غير الناطقين بها، وأما ما حسبه السيد مصطفى زين تنوعا فما هو به في شيء، فكل اللهجات العامية بالنسبة للفصحى عامية واحدة لأنها جميعا في درجة واحدة وتعددها ليس تنويعا. وإذا كانت لغة المسرحية هي الفصحى اتفقت كل شعوب الأمة العربية في فهمها وحجتنا الحرمان الشريفان يخطب فيهما بالفصحى ويسمع الخطبة في كل أقطار العرب والمسلمين آلاف بل عشرات الألوف من الناطقين بالعامية العربية وفيهم من غير العرب من تعلموا العربية وكلهم يفهم خطبة الجمعة يلقيها الإمام بالفصحى. ولو ألقاها الإمام بعامية الحجاز أو نجد لما فهم الخطبة من هم من غير أبناء هذه الديار، ولو ألقاها بالعامية لهانت الخطبة وفقدت هيبتها، لأنها ألقيت بلغة لا حرمة لها عند أصحابها إذ يسمعون كلاما عاديا رخيصا مبتذلا هو كلام الباعة والسوق والشارع والبيت والصعاليك والسوق والأطفال والجهلة والأميين. إنك تلبس لكل حالة لبوسها فلو ذهبت للقاء الملك أو مضيت إلى المسجد الحرام أو المسجد النبوي بزي الكناس أو الزبالة لشعرت أنت نفسك بالحقارة والهوان، وعندما يرتدي الكناس ملابس نظيفة ويتزيا بزي الوجهاء شعر بإنسانية وظهر بين يدي نفسه وكأنه إنسان محترم ذو قيمة. وكذلك اللغة فإذا هبط المسرح والممثلون إلى اللغة العامية فإن العامة أنفسهم الذين يشهدون المسرحية يحسون بهوانها لأنهم يسمعون لغة السوق تعرض عليهم وهم في غنى عنها لأن لديهم هذه البضاعة المزجاة. أما الفصحى فسحرها يتجدد وتحمل على الدوام أسباب بقائها وسحرها وجمالها، فأنا أقرأ الفصحى منذ نصف قرن، ولم تتبدل أو تسقط كرامتها وهيبتها عندي بل تزداد نفاستها على مر الأيام. فالفصحى هي لغة المسرح إذا أريد للمسرحية الذيوع والانتشار والبقاء والتجدد، أما العامية فتحصر المسرحية في الزمان والمكان، فمنذ سبعين عاما مثلت على المسرح في القاهرة روايات بالعامية، ولو أعيد تمثيلها اليوم لما وجدت ما سبق أن وجدته، بل لانصرف عنها أبناء هذا الزمان لأن عامية القاهرة وعامية كل بلد قبل سبعين سنة ليست بعامية هذه الأيام في الأسلوب وفي بعض كلماتها، فمئات الكلمات العامية التي كانت تستعمل قد اختفت وحلت محلها كلمات أخرى جديدة. فخير للمسرح أن يتخذ الفصحى لغته للروايات التي يريد عرضها إذا أراد لها البقاء وتجدد الحياة والذيوع والانتشار لأن معجزة القرآن تحل بركاتها على الفصحى فتبقى على الدوام.