نحن المسرحيات المكتوبة باللغة الفصحى نشعر بالاضطهاد، نشعر بأننا نتعرض لكل الوان العزل والفرز والتمييز ضدنا، نتعرض للطرد للتشريد للاقصاء كالمنبوذين… المخرجون والمنتجون ومدراء المسارح ألقوا بنا خارج اسوار المسارح، التي لم تعد تعرف الا العامية واللهجات المحلية منطقاً ولغة للحوار، فوق منصات المسارح في كل ارجاء العالم العربي. اساتذة الجامعات والمعاهد وكليات الآداب والمدارس القوا بنا خارج اسوار الجامعات التي تكاد لا تقبل بنا كنوع من انواع الادب العربي، كفئا للشعر والقصة والمقال. نحن المسرحيات المكتوبة بالفصحى خرجنا من عباءة الشاعر العظيم احمد شوقي، وشاعر القطرين المبدع خليل مطران الذي ترجم روائع شكسبير. وخرجنا من عباءة الاديب المتألق توفيق الحكيم والشاعر عزيز اباظة والكاتب القدير علي احمد باكثير. نحن المسرحيات المكتوبة بالفصحى، التي انبثقت عنها نهضة المسرح في الستينات، باقلام الشعراء عبدالرحمن الشرقاوي وصلاح عبدالصبور، والناثر كاتب هذه السطور. ومن الستينات الى السبعينات وبعدها، تواصل بنا طابور الابداع من خلال اقلام سعدالله ونوس سورية، والطيب الصديقي المغرب، وعزالدين المدني تونس، وسمير سرحان ومحمد عناني مصر، وقاسم محمد العراق، والماغوط والشاعر فاروق جويدة، ثم انضم اليهم بعد ذلك يسري الجندي وابو العلا السلاموني. من كل الاقطار، وبكل الاساليب وأدوات الابداع، اجتمع شمل اسرة المسرحيات الفصحى، ثم سقط علينا قرار المنع والاستثناء من مسارحنا. لم نعد نرى اضواء المسرح ولا وجوه الممثلين، في زمن تتجه فيه اصابع الاتهام الى المسرح، وتحاكمه بجرم الهبوط. ولما كان الجميع يتهم المسرح بالهبوط، توهمنا وتخيلنا ان الظرف يسمح بعودتنا الى ديارنا المسرحية واضوائنا، فاذا بأصابع الاتهام نفسها تشير الينا، وتطلب منا مغادرة المكان والعودة على اعقابنا. فكل اصلاح للمسرح - اذا كان ثمة اصلاح - لا بد ان يتم من دوننا وأن يقوم باقصائنا واستبعادنا. هكذا قرر المنتجون والمخرجون، ثم اهل النخبة والاساتذة اعضاء لجان التحكيم التي تقوم بمنح الجوائز الرفيعة. نحن المسرحيات المكتوبة بالفصحى نشكو الزمان والاحوال، للاجيال المقبلة، ولأهل الحكمة في جيلنا، نحكي حكايتنا. تعبنا كي ننتسب الى الادب كالشعر والقصة والمقال، ونثبت انتسابنا الى عكاظ والعصر العباسي والاندلسي، وننضم الى نادي الادب العربي العريق، والحضارة الاسلامية الرفيعة. فلما أثبتنا انتسابنا، وحصلنا على عضوية نادي الادب العتيد، تعبنا لكي ننتسب الى المسرح ونثبت ان المسرحية المكتوبة بالفصحى انما كتبت للتمثيل لا لمجرد القراءة، وأن اللغة الراقية ليست من عوامل الفشل المسرحي، وانما هي من عوامل الرقي المسرحي والنجاح. لكنهم لا يقبلون كلامنا الا ساعة، ثم ينكرونه ساعات. وإن اقروا به يوماً، فليرفضوه سنوات. وفي العصر المسرحي الجريح، تحالف الفنانون المخرجون مع الاساتذة الاكاديميين الافاضل، ومع مجموعة من مانحي الجوائز الرفيعة، على انكار قدرنا، والتقليل من شأننا، والاعراض عنا والتغاضي عن ضيائنا وتجاهل اشعاعنا. مع اننا هنا، ليس من يضاهينا عدداً وقوة، وتعرفنا اجيال مضت، وستعرفنا - باذن الله - أجيال آتية. اما في اللحظة الراهنة، فألقي بنا خارج السور. القت بنا مرارة الانكار، وروح التمييز والاستثناء والميل الى نفي الآخرين وتحجيم اقدارهم. وللأسف فان من القى بنا خارج السور، لم يلق بنا وحدنا. معنا هنا في المنفى وبين ايدينا، احلام الرائد الاقتصادي العظيم، الذي بنى "مسرح الازبكية" على نفقته الخاصة، على الطراز المعماري الاندلسي البديع، لكي يكون داراً لائقة "للتمثيل العربي" بالفصحى، من خلال "شركة التمثيل العربي - احدى شركات بنك مصر". انه طلعت حرب، الذي لم تعد داره تستقبل المسرحيات بالفصحى، فسقطت احلامه معنا خارج السور. وبين ايدينا احلام رجال الثقافة والحضارة، الذين انشأوا المسرح القومي المصري عام 1935 في "دار التمثيل العربي"، وقرروا ان وظيفته المحافظة على اللغة الفصحى في المسرح، وعلى نطقها السليم، وجمال البلاغة في انشائها، وجمال النبرة في التعبير بها: طه حسين وتوفيق الحكيم وأحمد امين والشيخ مصطفى عبدالرازق والشاعر خليل مطران، اعضاء اول مجلس ادارة لپ"المسرح القومي". احلامهم معنا خارج السور، ومعنا ايضاً احلام الرواد الاوائل للمسرحية الفصحى، وتجاربهم الجليلة لتطويع الاسلوب والتأثير بالفصحى كي تتماشى مع فن المسرح، وتتويج الفن المسرحي بالفصحى: احمد شوقي، وخليل مطران، وتوفيق الحكيم، وطه حسين مترجم اليونانيات. نحن المنفيين خارج السور، ومعنا احلام هؤلاء الكبار، نعجب من ان الذين يفترض بهم ان يكونوا حراسنا الطبيعيين، هم اول طاردينا وكارهي سيرتنا وأول الدعاة ضدنا. نعجب من ان من كان انيط بهم الاعتزاز بنا، وتزكيتنا للاجيال المقبلة، هم الذين عقدوا العزم على استثنائنا وممارسة سياسة التمييز ضدنا، والطعن في عضويتنا في نادي الادب ونادي المسرح على السواء، والحط من قدرنا وتقليل اهمية جهودنا… وها نحن، المسرحيات المكتوبة بالفصحى، نتحدث من خارج السور الى من يود ان يسمعنا. نشكر بكل اعتزاز من فكروا في تقديرنا، ومن نظموا وخططوا لاعادة الاعتبار الينا. ولن ننسى انهم فكروا في اعادة الميزان الفني والادبي الى توازنه، بحكمتهم ونظرتهم الشاملة للحاضر والمستقبل، للثقافة والفن والحضارة العربية، ورغبتهم الكريمة في تنقية المناخ الفكري والاخلاقي من بذور التجني والتمييز، ورغبتهم الكريمة ايضاً في انهاء احتكار الفن الادبي وادبيات اللهجات العامية، لمنصات المسرح العربي وصورته التلفزيونية. اما هؤلاء الذين احبطوا المسعى ووضعوا حجراً على بئر الخير ليحبس الماء عن الجريان، فلا نقول لهم الا سامحكم الله. ونرجو الا يكون هذا ستار الختام، الا يكون المسرح المكتوب باللهجات العامية وصورته التلفزيونية احتكر المنصة المسرحية - العربية نهائياً. ونتمنى في المستقبل، نحن المسرحيات المكتوبة بالفصحى، ان تكون الاضواء مجدداً من نصيبنا.