المتخوفون من غلبة اللهجات العامية في الفضائيات العربية وإشاعة المزيد من الفرقة بين العرب يمكنهم ان يقللوا من مخاوفهم. فالعرب يمرون اليوم بمصهر لغوي مشترك شديد التفاعل ستكون محصلته في تقديرنا نشوء أو تطور محكية عربية جديدة وشاملة تنصهر فيها مختلف اللهجات العربية التي تتفاعل في هذه الحقبة عبر الفضائيات والأغنيات ووسائل الاتصالات المختلفة وعبر هجرة العمالة العربية الجارية منذ عقود والتعاملات التجارية والاستثمارية على صعيد رجال الأعمال والسياحة العربية المتزايدة بين مختلف أقطار الوطن العربي. ولا يغيب عن الاعتبار في هذا المجال ان اللهجة المصرية أصبحت لهجة عربية شبه مستوطنة في الذاكرة العربية مشرقاً ومغرباً على السواء عبر الإذاعة والفيلم والأغنية منذ ذيوع أغاني أم كلثوم وفريد الأطرش وغيرهما في الأربعينات الى تأثير المسلسلات التلفزيونية المصرية حالياً من دون أن نغفل تأثير الخطاب السياسي المصري من عبدالناصر الى حسني مبارك... عندما يتطعم باللهجة المصرية المحببة. واليوم عندما أسمع اللهجة اللبنانية أو أية لهجة أخرى في بعض الفضائيات العربية لم يعد يتملكني فزعي القديم على الفصحى. اللهجة اللبنانية اليوم - عبر الفضائيات - تتلاقح مع اللهجة المصرية المخزونة في الوعاء اللغوي للعرب مع لهجاتهم المحلية، ومع اللهجات المغاربية التي بدأت تألفها الاسماع المشرقية الى اللهجات الخليجية المنتشرة عبر السياحة والأغنية - من مراكش الى البحرين - والتي تنقلها أيضاً العمالة العربية الوافدة الى الخليج عندما تعود الى مواطنها، وجدير بالملاحظة ان محكية المنطقة الغربية من السعودية لهجة الحجاز هي بمثابة مشروع أولي مصغّر لمحكية عربية مشتركة تمزج بين اللهجات المحلية السعودية والعامية المصرية، والعامية السودانية لتفاعل هذه اللهجات وانصهارها تاريخياً وبشرياً عبر أزمان. والمؤكد أن درجة التقارب بين اللهجات العربية اليوم أفضل بكثير من حال التباعد التي كانت حاصلة بينها قبل نصف قرن أو أكثر وإن قصر اللغويون العرب في دراسة واقعنا اللغوي على حقيقته، بل اننا نزعم انه لا يوجد عربي متوسط التعليم اليوم أو حتى أميّ متفاعل مع الحواريات العربية المشتركة الدارجة يستخدم لهجته المحلية القديمة استخداماً حصرياً كما كان أجداده يفعلون قبل خمسين سنة. لقد كان من المحال في ذلك الزمن أن يفهم المغاربي لهجة العراقي أو الخليجي أو اليماني. وكان من المحال أن يفهم المصري لهجة السعودي أو العماني عندما كانت مختلف اللهجات العربية متجمدة في قواقعها ومواقعها المكانية التي سجنتها فيها الجغرافيا العربية بين فراغاتها الصحراوية الشاسعة وهي التي فصلت أيضاً بين الحواضر والمدن والمجتمعات السكانية والزراعية مثلما فصلت بين اللهجات. راجع أبحاث كاتب هذه الدراسة في هذا الصدد في مؤلفاته: حول تكوين العرب السياسي. هذه الحال من التباعد اللساني بين العرب على صعيد الحياة اليومية والتفاعل اللغوي المعاش - حتى في البلد العربي الواحد أحياناً - نجدها تتحول اليوم تدريجاً الى حال من التلاقح والتمازج ثم الانصهار بين مختلف المحكيات المحلية العربية في مفرداتها وتعابيرها وتراكيبها بما يؤشر الى ولادة محكية عربية متقاربة ومشتركة يمكن أن تتطور مع استمرار تفاعل ألسنة العرب في ما بينها للعوامل التي ذكرناها، وذلك انفتاح وتفاعل من نتائج التطورات العلمية وانتشار العولمة وربما كان ذلك من جوانبها الايجابية بالنسبة الى تعميق التفاعل اللغوي بين العرب على صعيد الحياة اليومية والواقع المعاش. وبعد التغيير في العراق، أتاحت الظروف ان نستمع الى متحدثين باللهجة العراقية التي افتقدناها، وبعفوية شديدة عاد العراقيون لاكتسابها بصراحتها المحببة لأنها جزء من طبيعتهم، وذلك بعد تبدد الخوف من نظام الرعب السابق. وتتشابه العامية العراقية مع العاميات الخليجية المطعمة باللهجات العربية الأخرى وبالفصحى لدرجة أن من كان يسمعني أتحدث مع الأخوة العراقيين أثناء زياراتي لبغداد قبل عقود، يسألني: الأخ من البصرة؟ فأرد عليه: ليس تماماً... ولكن من دلمون المحاذية لها...!! تنقصنا - استقراء - الشواهد البحثية الحية والدراسات المنهجية على مثل هذه الولادة الجديدة لمحكيتنا العربية الجديدة المشتركة التي بدأت تتكلمها النخب العربية في كل مكان وعلى الأخص في اللقاءات القومية والمثقفون العرب في حواراتهم ومن يقومون بالمداخلات والاستفسارات في مختلف الفضائيات العربية... إلا أن ذلك لا يمنعنا من أن نرهص بولادتها استنباطاً. هذا مع الأخذ في الاعتبار ان عاملاً معاكساً يقلق الكثيرين وهو ان التشكل اللغوي الراهن في بعض الأقطار العربية تدخله مفردات ومصطلحات غير موحدة بسبب الاقتباس والترجمة غير المنسقة عن اللغات الأجنبية، وان كانت هذه الكلمات تدخل الفصحى أو العاميات كمفردات وليس كتكوين لساني أو تراكيب لغوية يمكن أن تؤثر جذرياً في ولادة المحكية الجديدة التي يمكن أن تستوعب هذه المفردات في تمازجها الجديد كما تستوعب المفردات المتوارثة في العاميات المختلفة. ولا بد من تأكيد خاصية مهمة في هذا التشكل اللغوي العربي الجديد. وهي ان اللهجات العربية بأصولها من الفصحى تصب في هذا الرافد العربي اللغوي الأوسع، بينما تمده الفصحى بالكثير من مفرداتها وتعابيرها. فمع انتشار التعليم والثقافة في مختلف الأقطار العربية يتزايد القادرون على التحدث بلهجة مطعمة بالفصحى الى حد كبير. هكذا، فإن التقارب والتوحيد اللغوي العربي مرتبطان بانتشار التعليم ومحو الأمية، بينما سيادة اللهجات العامية الضيقة مردها التاريخي في الأساس الى الأمية اللغوية إضافة الى العزلة الجغرافية. وإذا كان التفاعل القائم بين العرب اليوم - بالتخطيط أو التغيير المقبل مع العولمة - يتجاوز بهم العاملين المعوقين المذكورين، فلنا أن ننتظر ولادة هذه المحكية العربية المشتركة التي ستشارك في توليدها مختلف اللهجات العربية المتفاعلة اليوم في ما بينها، اضافة الى العربية الفصحى. ولا بد من الاشارة الى أن من ايجابيات الصحوة الاسلامية انها تركز في خطابها على رصيد الفصحى - قرآنا وحديثاً ووعظاً - بما يشكل دعماً للفصحى ودورها في تشكيل هذه المحكية العربية الجديدة، وذلك بعد غربلة الأسلوب اللغوي القديم والمتجمد الذي يشكل تهديداً لمستقبل اللغة. وربما مثلت "العصفورية" لغازي بن عبدالرحمن القصيبي - في ما تمثله - أهم شاهد مكتوب على هذه الولادة اللغوية الجديدة حيث تتلاقح في حوارها العاميات العربية المتفاعلة في ما بينها. والواقع ان المؤلف شديد الوعي بالإشكال اللغوي الذي يعانيه العرب اليوم، إضافة الى استخدامه الفني لهذه الحواريات "المولدة"، حيث يقدم الحوار في "العصفورية" لدارس هذه الظاهرة امثلة حية على هذا التكوين اللغوي الجديد: - عفواً شو يعني راح وطي. - راح وطي يعني داسوه... وطئوه بأقدامهم. وفي حوار آخر: - عفواً يا بروفيسور شو يعني أرناق؟ - أرناق جمع رنق بالخليجي وتعني صنف. ويعلق المؤلف: وأظن ان أصل الكلمة ايراني... و لا ارى ضيراً من دخول بعض كلماتهم الايرانيين الى اللغة العربية، بخاصة اذا درجت على الألسن وأصبحت من الحوار اليومي... العصفورية، ص155. ولمحة أخرى: - عفواً يا بروفيسور... شو يعني زيطة وزمبليطة. - زيطة وزمبليطة تعني ضجة وضوضاء. تستطيع اذا اردت الفصحاء ان تقول بعد هياط ومياط... كما استعمله المعري في "رسالة الغفران". وهذا الدمج اللغوي في حوار "العصفورية" بين التعبيرات العامية والفصحى والكلمات المقتبسة من لغات اخرى، لا يقتصر على امثلة قليلة، وانما يمثل ظاهرة جديرة بالدرس اللغوي النصي والميداني. ها هنا محاورات اخرى من "العصفورية" على سبيل المثال لا الحصر: - - التشاورمات تصنع من لحوم القطط! - البسينات! يا عيب الشوم العصفورية: 78. * * * - أكلنا البامية بالجمبري... ولعبنا. - بامية بقريدس؟ شو ها الأكلة العصفورية: 234. * * * - عفواً... شو يعني نشبّك الوايرات. - نشبّك يعني نوصل. والوايرات أسلاك الكهرباء... العصفورية: 245. واليك هذا "المندمج اللغوي" الذي يُمثل في نظرنا نموذجاً مصغراً جداً، لكنه معبر جداً، عن طبيعة هذه المحكية المشتركة بين مختلف لهجات العرب: - "حاضر يا الشيخ، كله تمام يا أفندم... باهي! مزيان! تهنّا... صار...". هكذا تلتحم الكلمات الدارجة من مختلف اللهجات العربية في عبارة محكية واحدة من الخليج الى المغرب عبر مصر... وكلها ان عدنا الى جذورها فصيحة، ومن باب رد العامي الى الفصيح كما في الادبيات اللسانية. وهي نماذج على اهميتها في حد ذاتها، يرافقها وعي لغوي واضح... يقول القصيبي في احد حواراته التي اوردناها: "... اللغة، يا حكيم، كائن حي يتطور وفق قوانينه الخاصة. يقتبس كلمة من هنا، وكلمة من هناك. ولا يحتاج الى اذن من مجمع سدنة الخالدين. ولا من الدكتور "نحوي" ولا من البروفيسورة "قاعدة" اللغوية. وتذكر ان سيبويه بجلالة قدره لم يكن من بني اسد، ولا حتى من بني نمير..." ص 155. اما "مداعبات" القصيبي اللاذعة لمجمع سدنة الخالدين - كما يسميه - قاصداً مجمع اللغة العربية في القاهرة - فتنفذ الى صميم الاشكال اللغوي العربي برمته، مما يطول شرحه، في هذا المجال، حيث تعرضت "العصفورية" لهذه القضية - المشكلة، مثلما تعرضت لقضايا عربية مماثلة على طريقة المشرحة النفسية والاعترافات الذاتية، ولكن بمشرط فكري لا ينقصه الوضوح والحسم. * * * وفي تقديرنا ان اللغة العربية الفصحى لا يمكن ان تبقى بمعزل عن هذه الولادة الجديدة. فهذه المحكية المشتركة ستمدها بقوة جديدة وتسهم في تبسيطها وتيسيرها وسيستمر التقارب بين المحكية الجديدة المولّدة، والعربية الفصحى الميسرة والمبسطة الى ان يحقق الواقع اللغوي للعرب توازنه المعاصر المنشود بما يتجاوز الفجوة الكبيرة بين الفصحى والعاميات المتباينة والفجوات الكبيرة المتوارثة تاريخياً بين اللهجات العامية ذاتها في الوطن الكبير وفي كل بلد عربي احياناً. والواقع انه يقوم بين اللغة المكتوبة واللغة المحكية تفاعل ازلي في التجارب اللغوية للشعوب، ولا يمكن المحكية العربية الجديدة ان تظل بمنأى عن الفصحى، كما ان الفصحى لن تستطيع ان تتغافل وهي تنزع الى التبسيط والتيسير وتجاوز صعوبتها التقليدية عن هذا المولود اللغوي الجديد في واقع الحياة وواقع اللسان العربي. واذا تأملنا في علاقة التطور التاريخي، مثلاً، بين اللهجة الايطالية المحكية والايطالية المكتوبة منذ دانتي في "الكوميديا الإلهية"، نجد ان لغة المشافهة ولغة الكتابة لا يمكن ان تظلا في عالمين مختلفين. ولا نحتاج في تفهم هذا القانون اللغوي الى النموذج الايطالي او غيره، ففي العلاقة التاريخية بين لهجة قريش واللغة العربية الفصحى - وكيف تطورت الاولى لتصبح الثانية - ما يؤكد هذه الصلة الوثيقة والتي تدعونا الى رؤية الجانب الايجابي التفاعلي المثمر والمبدع بين العاميات والفصحى بدل البقاء في دائرة الحرب الأزلية بينهما! شريطة ان يطور علماء الفصحى اساليبهم ومقارباتهم لواقع الحياة اللغوية، مثلما تتقارب اللهجات العربية في اكبر مصهر لغوي يعيشه العرب اليوم! ونحن على ثقة ان العربية الفصحى ستجد في وليدها الجديد سلالة مباركة اذا عرف علماؤها وانصارها كيف يعملون على تيسيرها ومقاربتها لواقع الحياة وطبيعة المحكية العربية الجديدة المشتركة، فالتفاعل بين محكية واحدة - مستمدة من الفصحى ومن لهجات اصولها عربية في التحليل النهائى - وبين الفصحى ذاتها سيخلق واقعاً لغوياً جديداً نثق انه سيقلل الخطر على الفصحى من العاميات القديمة، بل سيزيد من ترسيخها في الواقع اللغوي المعاش للعرب. وفي اعتقادنا اخيراً انه لن يكون للعربية حياة، الا اذا اصبحت لغة الحياة. * مفكر من البحرين.