قال الناقد المصري شعبان يوسف في كتابه «المنسيون ينهضون» (2017): إن هناك نقادا يروجون لأعمال أدبية، حظها من الإتقان والتجويد قليل، لغايات عدة، أهمها «المجاملات والإنسانيات والصداقات»، وقال: إنه لم يفلت من ذلك الكبير ولا الصغير، فهذا طه حسين قرظ، في فصول أنشأها، شعراء من طراز الأمير عبدالله الفيصل، ومن طراز ثروت أباظة، وحسن عبدالله القرشي، وأنه كان يجلد كتابا ونقادا آخرين، مهما كانوا محسنين. والزج باسمي الشاعرين السعوديين، هنا، لا يخلو من دلالة، وكأنما كان شعرهما ليس قمينا بأن يختصه ناقد ذو شأن بفصل يذيعه في الصحافة، أو كلمة يقدم بها ديوان شعر، فإذا كان ذلك كذلك فإن ما أنشأه الناقد الكبير لا يصنف في «النقد»، وإنما في «التقريظ» الذي لا يحتمل إلا المديح والإطراء، وكان ما أنشأه طه في الأمير ، و القرشي معدودا في «المجاملات والإنسانيات والصداقات». وعسى أن يضمر هذا القول عبارات مسكوكة طالما رددها نفر من المثقفين العرب بين أيدي ما ينشئونه، متى مسّ شأنا من شؤون الأدب والثقافة في السعودية ودول الخليج ، أكثرها رواجا بين فصيل منهم: «ثقافة البترودولار»، و«ثقافة النفط»، وما سواها من عبارات، غايتها الحط من مثقفي هذه الناحية من بلاد العرب ، والاستهانة بما ينشئون. فهل جامل طه الأمير و القرشي؟ سألج إلى الإجابة عن هذا السؤال من ناحيتين، إحداهما تتصل بالعصر، والأخرى بطه حسين نفسه. أما العصر، فلقد اعتاد الكتاب في مصر و البلدان العربية، أن الكاتب متى صنف كتابا، ثم دفع به إلى المطبعة = يهدي نسخا منه إلى نفر من أعلام المثقفين، من أمثال طه ، والعقاد، وأحمد أمين، والزيات، فإذا استقبل هذا الأديب أو ذاك كتابا أو ديوانا ، كان واجبا عليه أن يقرأه، حتى إذا قرأه، أنشأ فيه فصلا يطول أو يقصر، يذيعه في هذه الصحيفة أو تلك، وليس له أن يتأخر عن ذلك، مرضاة للكاتب، ونزولا على ثقافة العصر وتقاليده، فإذا عرفنا هذه الخصيصة أدركنا السبب الذي من أجله أخلص طه والعقاد جمهرة من مؤلفاتهما، لنقد الكتب، يستوي في ذلك أن يكون مؤلف الكتاب مصريا، أو سوريا، أو سعوديا، أو سودانيا، أو تونسيا. كان السعوديون، في فجر نهضتهم، يسعون إلى أعلام الثقافة في مصر، يلتمسون إليهم أن يحلوا كتبهم ب«مقدمات» تكون سببا في ذيوعها وانتشارها، فإذا أشرفنا على كتب ذلك العهد، رأينا محمد حسين هيكل يقدم كتاب «وحي الصحراء: صفحة من الأدب العصري في الحجاز»، لمحمد سعيد عبدالمقصود وعبدالله عمر بلخير (1355ه = 1936م)، وطه حسين ينشئ كلمة قصيرة زين بها أحمد عبدالغفور عطار صدر ديوانه «الهوى والشباب» (1365ه = 1945م)، ويبسط القول في ديوان «الأمس الضائع» للقرشي (1377ه = 1957م)، وقس على ذلك مقدمات أخرى أنشأها العقاد، و الزيات، وحسن كامل الصيرفي، ومحمد مندور. أما ما اتصل بطه، فحسبه أنه يطوي ضلوعه على هيام بأدب الجزيرة العربية، ذلك الذي اتصل به، منذ نشأته، وكان يحمل هذا الحب وذلك الهوى في مصر، حيث يقيم، فإذا أقبل الصيف كان الشعراء الأقدمون، وشعراء الجزيرة خاصة، سلواه ومتعته، في أوربة، حتى إذا قدر له أن يزور ا السعودية، في رحلته عام 1374ه = 1955م، أظهر من ألوان الوجد، ما لا يعرفه إلا من عرف أي سر تنطوي عليه صحراء الجزيرة، ووديانها، وسهوبها. كان يعرفها، من بعد، فأحبها، فما ظنك به وهو يمشي على بطحائها؟ وعساه اشتم عبير صحرائها، وكان يبحث، بعين الفؤاد، عن شعرائها الذين أحبهم، وأعرابها الذين أطربه بيانهم، فإذا بشعر الأمير يذكره بشعراء نجد والحجاز، وإذا بالأمير، عنده، بدوي ولو كان حضريا، وإذا بقصائده تدنيه من أسلافه العذريين، فإذا أنشأ في الشاعر القرشي مقدمة، فحسب شاعره أن يأخذ بيده إلى فتيان قريش، أولئك الذين اختص شاعرهم عمر بن أبي ربيعة المخزومي القرشي بخير نقده. وأغلب الظن أن طه إنما كان يقرأ في الشاعرين المعاصرين نجدا القديمة والحجاز القديم، وليس بعيدا أن عميد الأدب العربي كان يرى للجزيرة عليه يدا سلفت ودينا مستحقا، وحسب هذه الأرض التي قدر له أن يزورها أن تلهمه بهذه الكلمة التي خطب بها، في حضرة وزير المعارف، آنئذ، الأمير (الملك) فهد بن عبدالعزيز، وجمهرة من أدباء البلاد وأعيانها: سادتي! كان الفرنسيون في بعض أوقاتهم يتحدثون عن انتشار ثقافتهم في الأرض فيقول قائلهم: إن لكل مثقف وطنين، أما أحدهما فوطنه الذي ولد فيه ونشأ، وأما الآخر ففرنسا التي تثقف فيها . كنا نسمع هذا الكلام،ونرى فيه شيئا من حق وكثيرا من سرف، ولكن الذي أريد أن أقوله الآن هو الحق كل الحق، لا نصيب للسرف فيه من قريب أو بعيد، فلكل مسلم وطنان لا يستطيع أحد أن يشك في ذلك، وطنه الذي نشأ فيه، وهذا الوطن المقدس الذي أنشأ أمته وكون قلبه وعقله وذوقه وعواطفه جميعا، هذا الوطن المقدس الذي هداه إلى الهدى، والذي يسره للخير، والذي عرفه نفسه، وجعله عضوا صالحا مصلحا في هذا العالم الذي يعيش فيه. نعم، أحب طه شعر الأمير ، واستهواه شعر القرشي، وبعض النقد حب، وكان بمقدوره، لو أراد، أن يحيي الأمير بكلمة ترضيه، وحسبه أنه «العميد»! لكنه لم يفعل، وإننا لنقرأ في الفصل الذي أذاعه في الصحافة، أولا، ثم في كتابه «من أدبنا المعاصر» أن إعجابه لم يكن ليطوي مآخذ رآها في شعر الأمير، فهذه قافية قلقة، وتلك عبارة لينة، وكان قمينا بصاحب «وحي الحرمان» أن يستبقي من البداوة القوة والجزالة، وكان جديرا به أن لا يتخلف عن الذوق البدوي، وجعل يحصي ما في قصائده من هنات، فهو يثني «الوداع» في غير حاجة إلى تثنية، ويؤنث «الروح»، «ولو قد ذكره لمضى مع الفصحاء من شعراء البادية»! أما «إلاك» و«رؤياك» فذلك فوق ما يحتمله عميد الأدب العربي!