احتفلت الأوساط الأدبيّة والأكاديميّة أخيراً بذكرى رحيل طه حسين 26 تشرين الأوّل أكتوبر 1973. وبعد هذه السنوات، لا يزال عميد الأدب العربي حاضراً في الحياة الفكريّة والثقافيّة العربيّة أكثر من أي وقت مضى، خصوصاً في ظلّ اعادات النظر والتراجعات والنقاشات التي تعرفها هذه المرحلة المتوتّرة المأزومة من التاريخ العربي المعاصر. ما هي الأمثولة التي نحتفظ بها اليوم من صاحب "الأيّام" الذي عرّف بأعلام الفكر والأدب الغربيين في لغة الضاد، وتجرأ على تحريك الساكن الثقافي، وكان وراء قوانين نهضويّة ووراء تأسيس أبرز الجامعات المصريّة؟ هنا وقفة عند بعض محطّات مسيرة فكريّة مضيئة، وصاخبة، ساهمت، ببساطة، في صياغة الوعي العربي المعاصر، وتحديد ملامحه وتضاريسه. يبدو العام 1919 بعيداً نسبياً، وطه حسين حامل الدكتوراه، العائد تواً من فرنسا، يعتلي المنصة بتقديم من رئيس الجامعة آنذاك عبدالخالق ثروت. ها هو أستاذنا طه حسين يبدأ الآن رحلة الإفادة بعد حياة الإستفادة. وتبدأ محاضرات الأستاذ بظلالها الثقافية والمعرفية والتحريضية أيضاً. ويستكثر طه حسين على نفسه ان يتوجه للغرس في حديقة الطلاب وهو يرى غابة الأمة عريانة وعطشى للمعرفة، فيتفق مع صديقه محمد حسنين هيكل رئيس تحرير جريدة "السياسة" آنذاك، ان يفرد له مساحة لمقال يظهر كل أربعاء، يضمنه محاضرته ويتناول فيه رمزاً او حدثاً، من رموز وأحداث الثقافة والمعرفة في التراث العربي. وسرعان ما صارت تلك الأحاديث حديث العامة والخاصة، ما زاد من نهم طه حسين الى المزيد، فاقترح تخصيص يوم آخر لمقالة جديدة في الآداب والثقافة الغربية، فللغرب رموزه الشامخة أيضاً. هكذا كتب معرّفاً ببول جيرالدي، أندريه جيد، ألكسندر دوما الصغير، وفكتور هوغو وغيرهم. وكما جمعت كتاباته عن "حديث الأربعاء" في كتاب بالعنوان نفسه، فقد نشرت كتاباته عن الأدب الغربي في كتاب حمل اسم "لحظات". هل كان طه حسين سياسياً في بردة أديب، أم أديباً في عباءة سياسي؟ لعله كان الاثنين معاً. فعندما يعنّ لأحد الطلاب ان يسأله: هل يصلح الأديب للوزارة؟ يجيبه طه حسين: ولِمَ لا؟ وهل كان وزراء الدولة العربية في أرقى عصورها الا من الأدباء أمثال عبدالحميد الكاتب والصاحب بن عباد، وفي العصر الحديث تجد وزراء مثل دزرائيلي البريطاني وبوانكاريه الفرنسي رئيس الوزراء الذي تولى رئاسة الجمهورية الفرنسية... ثم هناك كليمنصو الطبيب الأديب... وكان يضيف: صيغة السؤال ينبغي ان تعكس لتكون: هل يصلح غير الأديب للوزارة؟ كان طه حسين عنيداً، صلباً، وفياً للمبادئ التي آمن بها، ولو كلفه ذلك لقمة العيش. فقد عارض بإصرار وضراوة طلب رئيس الوزراء اسماعيل صدقي منح درجة الدكتوراه الفخرية لعدد من الساسة المصريين والأساتذة الأجانب بذريعة ان بعضهم لا يستحقها. كان طه حسين آنذاك عميداً لكلية الآداب وعندما احتدمت المناقشة كان رد طه حسين على الوزير: عميد كلية الآداب ليس عمدة يا معالي الرئيس. بعد ذاك الموقف الملتهب عزل طه حسين من منصبه، فانقطع مورد رزقه الوحيد. فلجأ الى الصحافة يكتب في جريدة "كوكب الشرق" الناطقة بلسان حزب "الوفد"، معارضاً سياسات الحكومة، مندداً بطغيان الملك، مطالباً بالعودة للعمل بدستور 1923. وكانت شعبية صاحب "الأيّام" تتصاعد باضطراد، ما لعب دوراً في ردّ الاعتبار إليه من خلال إعادته الى التدريس في كلية الآداب، التي وصلها محمولاً على الأكتاف. يروي لويس عوض عن تلك المرحلة: "غداة صدور قرار مجلس الوزراء بإعادته استاذاً في الجامعة، تجمعنا في ذلك اليوم المشهود في حرم الجامعة وخارج الحرم. تجمعنا تلقائياً من كليات الآداب والحقوق والعلوم لم تكن للجامعة غير هذه الكليات الثلاث، ثم ما لبث ان انضم الينا جيراننا طلاب مدرسة المهندسخانة كلية الهندسة، وطلبة مدرسة الزراعة العليا وطلاب مدرسة الطب البيطري، وطلاب دار العلوم ومدرسة الطب هرعوا الينا من القصر العيني. وبلغ الحشد نحواً من عشرة آلاف طالب للعودة بطه حسين بعد غيبة عن الكلية دامت ثلاث سنوات. فملأ الجمع ذلك الطريق الواسع الفاصل بين حديقة الادرمان وحديقة الحيوان، وحين وصلت سيارة العميد، أوقفناها وأنزلناه منها وسط هدير الهتافات، وحملناه على الأعناق طوال الطريق، وتبلورت الهتافات المتلاطمة في هتاف قصير من كلمتين: طه حسين، طه حسين، طه حسين. حتى بلغنا به كلية الآداب، ثم ارتقى كرسي العمادة العام 1936 وظل فيه ثلاث سنوات حيث جدد انتخابه، ولكن حكومة محمد محمود لم توافق على التجديد، فعاد أستاذاً من دون عمادة". وإذا كان طه حسين قد تذوق لذّة الانتصار وحلاوة نيل المراد عندما حمله طلابه على الاكتاف، فما أكثر غصّات طه حسين مما تجرعه من مر وعلقم وسم. فلم تكن إحدى العواصف التي يثيرها طه حسين، أو التي يثيرها خصومه، تهدأ حتى تثور أخرى. وكثيراً ما تجمع الطلاب بحشود غفيرة أمام الكلية بعضهم بدافع سياسي، وبعضهم بدافع ثقافي الخوف من التجديد، وبعضهم مدفوعاً بغريزة القطيع، مطالبين باستقالته حيناً وبرأسه حيناً آخر. ولم تكن المرة الأولى التي طالبه بها المتظاهرون بالكفّ عن "تعليم البنات"، ولم تكن الأخيرة العام 1938 حينما هجم المتظاهرون مقتحمين مبنى كلية الآداب وغرفة العميد بقصد الاعتداء عليه واهانته، لولا نفر من خلصاء طلابه ذادوا عنه. وتلقوا الضربات عنه وجرح منهم من جرح، وكتبت عن الواقعة صحف الغرب والشرق. وكأن معارك طه حسين الأدبية والثقافية والسياسية لا تكفي، فقد جاء من يندد بوطنيته، ويوصمه بالخيانة والانصياع لمخالب الصهيونية وهو في أوج تألقه وقمة عطائه، وكان الفتيل الذي أشعل النار، مجلة "الكاتب المصري". واذا كان الكثير من الألغاز قد فكّ عنها غموضها فإن مجلة "الكاتب" ظلّت لغزاً غامضاً الى اليوم. يكتب لويس عوض حول ابهام مجلة "الكاتب": "خلال السنوات الخمس التي أقصي فيها طه حسين عن السلطة، وتحديداً بين عامي 1946 - 1947. أشرف طه حسين على دار "الكاتب المصري" التي عينته مستشاراً لها، ومشرفاً على مطبوعاتها، ورئيساً لتحرير مجلتها. وقد كانت لهذه الدار قصة واضحة وغامضة معاً. كان يملك الدار آل هراري، أربعة أخوة من يهود مصر الميسورين ... وكان الأخوة شباب بين الخامسة والعشرين والخامسة والثلاثين، يتعاطون التجارة، وكان أهم وجه لتجارتهم انهم يحملون توكيلاً من شركة "ريمنغتون" للآلات الكاتبة. ولسبب غير معروف قرر الأخوة ولوج عالم النشر، وتعاقدوا مع طه حسين ليكون مستشاراً للدار ومتصرفاً بشؤونها الثقافية. وقد استطاعت هذه الدار خلال سنتين ان تصدر أهم مجلة شهرية ثقافية فكرية عرفها تاريخ مصر الحديث، وأن تطبع عشرات الكتب المترجمة والمؤلفة وعلى أرفع مستوى من الترجمة والتأليف. فأصدرت بعض مؤلفات أندريه جيد ودستويفسكي وستندال وتولستوي وتورغينيف وأوسكار وايلد ومدوّنة جوستينيان في القوانين، وكان قد ترجمها عبدالعزيز فهمي باشا، كذلك تم نشر بعض المخطوطات العربية المحققة. ومن خلال مجلة "الكاتب"، قرأ القارئ العربي للمرة الأولى كافكا وسارتر وألبير كامو وعشرات غيرهم، مما أتاح له الاتصال بقيادات الفكر الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية. وكنا يومئذ، سهير القلماوي وعبدالرحمن بدوي وأنا، كتّاباً أكاديميين محدودي الشهرة فقدمتنا مجلة "الكاتب" - او على الأصح قدمنا أستاذنا طه حسين الى جمهور المثقفين، حين جاورت أسماؤنا اسمه واسم محمد عوض محمد، ومحمد رفعت، ومحمود عزمي، وسليمان حزين، وغيرهم من الأساطين". ويستطرد لويس عوض: "كما ظهرت مجلة "الكاتب المصري" ومطبوعات الدار، فجأة، كذلك اختفت فجأة. فوجئنا ذات يوم واذا الدار تلغي عقدها مع طه حسين وتتوقف عن نشر الكتب، وتصفي أصولها ببيعها وبيع عقودها الى مكتبة الخانجي وبأبخس الأثمان. سبقت قرار التصفية حملة ضارية أشعلتها مقالات في بعض الصحف، اتهمت دار الكاتب المصري بأنها ... تموّلها الصهيونية العالمية بقصد استيعاب المثقفين المصريين والعرب وجرّهم نحو تيار ثقافي مشبوه، الخ. ووجد العميد نفسه مرة أخرى حبيس الدار، يرد عنه السهام التي انهالت عليه من كل صوب". جُرّد - إذاً - طه حسين من كل مناصبه وسلطاته، وأصبح بلا موقع رسمي ولا كرسي جامعي ولا منبر صحفي، وبعدما كان صالونه - كل يوم أحد - يغصّ بالوافدين والمريدين وحتى بعض الخصوم، انحسر عدد الحاضرين الى النصف، ثم تقلّص عن ذاك الحدّ. ولاحظ المقربون من طه حسين كم كانت وطأة تلك الأيام ثقيلة عليه، اذ أحاطته العزلة وكاد ان يفترسه غول الكآبة، حتى انه صرح لبعض المقربين اليه انه يفكر في ترك مصر، والإقامة في فرنسا. وتلك السنوات العجاف لم تخل من الآثار على فكر طه حسين. فقد تحوّل من الليبرالية المعتدلة الى الراديكالية المعتدلة، وانحاز الى اليسار المعتدل، ولم يكن "المعذبون في الأرض" - الذي صودر في مصر لدى ظهوره - الا تجسيداً لتحوله اللافت خلال تلك الحقبة. وكأنه بعودته الى الواجهة وزيراً العام 1950، قرر الانتقام من تلك السنوات العجاف. فقد بلغت شراهته للاصلاح مداها. وكان أهم مبادراته إقرار مجانية التعليم الثانوي والفني. كما انه سعى بخطى حثيثة إلى اقرار مجانية التعليم الجامعي، وهو يقف وراء مشروع تغذية الطلاب في المدارس على نفقة الدولة. وسيظل اسمه رديفاً للجامعات القائمة الآن، إذ لقب "أبو الجامعات". فهو الذي أنشأ جامعة الاسكندرية، وجامعة عين شمس، ووضع نواة جامعة أسيوط، وشرع بجمع التبرعات لإنشاء جامعة المنصورة... اضافة الى مقاومته الضارية ضد تسييد العامية على الفصحى، ووقوفه بوجه الموجة الجديدة للتحول نحو الحروف اللاتينية بدل العربية، والتي كانت الدعوة اليها تلقى بعض الرواج وتلقى آذاناً صاغية". وإذا كان الكثير من آراء طه حسين قد بهت لونه بفعل الزمن، والكثير من كتبه قد رُكن فوق الرفوف العالية، فإن معركته الأشهر، ستظل الجذوة التي تتّقد نارها كل يوم وكل حين وبأسماء شتى: التراث والمعاصرة، الجديد والقديم، العلمانية والدين، الماضي والمستقبل، حرية الرأي وقمع الفكر... وغيرها. وسواء، نصب طه حسين لنفسه فخاً، عمداً، حين نشر كتابه الموسوم "في الشعر الجاهلي"، ام ان غيره نصبه له ليقع فيه، فإن نتاج تلك المماحكات الثقافية والمساجلات التي دارت بسبب ذلك الكتاب وحوله، سيظل من أخصب حقب المعارك الادبية في الثقافة المعاصرة اذ حفزت أقطاب الفكر في التاريخ واللغة والأدب والنقد على اعادة النظر في كل ما حولهم من مسلمات وحقائق، وغربلة الأساليب السائدة مما أغنى المباحث اللغوية ونشّط الدراسات وأرسى قواعد جديدة للنقد الأدبي لم تكن معتمدة او شائعة، ولقح فكر النقد العربي بلقاحات مخصبة من الفكر الأوروبي في تلك الحقول. وبدلاً من أن تبهت معالم الشعر الجاهلي، اثر التعريض به وبصحته، جاء كتاب طه حسين بمثابة المصل المضاد لمرض في دور السبات، فقد هبّ المدافعون عن القديم كأعنف ما يكون الدفاع. وصار الشعر الجاهلي أشد رسوخاً، فأعيد إليه الاعتبار، وجددت طبعاته، وظهر في حلل جديدة إذ اعيد طبع الأصمعيات والمفضليات، وجمهرة أشعار العرب والمعلقات، وحماسة أبو تمام وطرفة بن العبد وعنترة العبسي وعامر بن الطفيل وعشرات غيرهم. وغدا الكتاب، وما أثير حوله، بمثابة الطبق الرئيسي على موائد الكثير من الصحف والكتب الصادرة في تلك الفترة 1926 - 1930، على المستويين المصري والعربي. بدأت بوادر العاصفة بمجموعة من المحاضرات ألقاها الأستاذ على طلبته في الجامعة المصرية، ثم جمعها في كتاب أطلق عليه "في الشعر الجاهلي". ومن المقاطع المجتزأة من الكتاب: "أول شيء أفجعك به في هذا الحديث، انني شككت في صحة الأدب الجاهلي وألححت في الشك او قل الشك ألحّ عليّ. فأخذت أبحث وأقرأ وأفكر وأتدبر حتى انتهى بي هذا كله الى شيء، الا ان يكون يقيناً فهو قريب من اليقين، ذلك ان الكثرة المطلقة في تسميته أدباً جاهلياً ليس من الجاهلية بشيء، انما هي منحولة بعد ظهور الاسلام". لم يكن نزع الفتيل الصاعق هيناً ولا ميسوراً، فسرعان ما شبّت النار في أعطاف كتّاب وأدباء ومفكري تلك الحقبة. وكان أول من أحس بلسعة النار الكاتب مصطفى صادق الرافعي، فدبّج مقالات لاذعة رافعاً لواء المعركة بين القديم والجديد حاملاً شعار الدفاع عن القديم لينضم اليه كثيرون من أقطاب الفكر والثقافة والأدب. وإذا كان لبوس المعركة قد بدأ أدبياً خالصاً، فإن هذا "اللبوس" لم يبرأ من شبهة الظن بما شابَهُ من شوائب سياسية ووظيفية ناهيك عن الصراع الحتمي بين جيلين وثقافتين. وتم تكريس الصحيفتين الرئيسيتين آنذاك، "السياسة" لسان حال الأحرار الدستوريين التي يشرف عليها محمد حسنين هيكل والمتعاطفة مع طه حسين، و"كوكب الشرق" لسان حال حزب الوفد التي يشرف عليها سعد زغلول. بدت الصحيفتان كساحتين تتبارز على أديمهما الأفكار والآراء ليس في مصر وحدها، انما من أنحاء الوطن العربي. كان طه حسين ينزع الى البحث والتحليل، ناسجاً على منوال الغربيين، بل متأثراً بمناهجهم، من دون ان يخفي اعجابه او تأثره: "أريد ان أصطنع في الأدب ذاك المنهج الذي استحدثه ديكارت للبحث عن حقائق الأشياء، وهي تجريد الباحث عن كل ما يعلمه من قبل، ليستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه". وكأنما كان هذا التأثّر وصمة في جبين طه حسين، إذ يعايره الرافعي قائلاً: "ما رأيت فئة يأكل الدليل الواحد أدلتها جميعاً كهؤلاء المجددين في العربية، فهم عند أنفسهم كالجمرة المتوقدة لا يشبعها حطب الدنيا، ولكن "غَرفة" من الماء تأتي عليها". وتصاعد اللهب وتمادى كثيرون بالطعن في هذا القادم من فرنسا الحامل لدرجة الدكتوراه. وكان الرافعي يلهب ذاك الضرام كلما خبت ناره. يقول: "... من أشد المجددين عرامة وشراسة وحمقاً هذا الدكتور طه حسين، دروسه الأولى في الشعر الجاهلي سخرية بالناس وتسفيه للتواريخ، لذا كثر غلطه واستشرى جهله، الخ". وهب المدافعون عن طه حسين يواجهون هراوات العقاد والرافعي. وانتقل الصراع من ساحة الشعر ليغدو صراعاً سياسياً وعقائدياً واجتماعياً وفلسفياً، ومواجهة بين القديم والجديد. وتمت مصادرة الكتاب، فأحسّ الكاتب ان الريح تتجه بسفينته نحو بحر الظلمات، أدرك الخطر المحدق به، ورأى بعينيه المكفوفتين المصائد والفخاخ المنصوبة للإيقاع به. وقد آثر السلامة فوجه كتاب براءة الى مدير الجامعة آنذاك لطفي السيد يقول فيه: "كثر اللغط حول الكتاب الذي أصدرته باسم "في الشعر الجاهلي"، وقيل اني تعمدت اهانة الدين والخروج عليه، وإني أعلّم الإلحاد في الجامعة، وإني أؤكد لعزتكم إني لم أرد إهانة الدين ولم أخرج عليه وما كان لي أن أفعل ذلك وأنا مسلم أؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأنا أرجو ان تتفضلوا فتبلغوا هذا البيان من تشاؤون، وتنشروه حيث تشاؤون". وبعدما خلد المتنازعون إلى الراحة بتوقيع صك البراءة، ثم برحيل الرافعي والعقاد والزيات وهيكل، بدت الساحة خالية الا من النصر المحسوم لصالح الأدب العربي برمته. لُقّح القديم بالجديد، العربي بالعربي، التراث بالمعاصرة، المنهج بالأسلوب والرأي بالرأي الآخر. وصار النقد عملاً فلسفياً خالصاً، وتحول الناقد "الحقيقي" باحثاً في شتى صنوف المعرفة باعتبارها ظواهر حضارة وركام تاريخ. والآن، بعد مضي أكثر من ربع قرن على رحيل صاحب العمادتين، نبحث سدىً عن عود ثقاب نلقيه في ظلام حياتنا الثقافية العربية الغارقة في السكون!