كانت ولا تزال القبيلة العمود الأكثر تأثيرا، في المجتمع العربي بشكل جعل منها الحاكمة والمهيمنة في كثير من الأقطار، خاصة بعد عهد النبوة وعهد الخلفاء الأربعة. فقريش وبنو تميم وبنو العباس وبنو أمية، والقائمة تطول بأسماء قبائل العرب بأصولها وفروعها وبطونها، قبائل شكلت تاريخا سياسيا واجتماعيا ضخما من الأحداث التي رسمت كثيرا من القيم والمبادئ والأعراف التي مثّلت النظام السياسي والاجتماعي في الفترة الماضية. وحتى قبل الإسلام لم تكن أعراف ومبادئ القبلية سيئة بمجملها، بل جاء الإسلام ليكمل ويتمم محاسنها، بل وحث الناس بالتمثل بها. عندما جاء الإسلام أبطل كل شريعة غير شريعة الله تعالى، وجاء محررا للإنسان فكريا قبل أن يحرره جسديا، ووضع العصيبة للقبيلة والشكل واللون والحسب والنسب، ب(دعوها إنها منتنة) و(إن أكرمكم عند الله أتقاكم). وأكبر عصبية يمارسها الإنسان هي تلك التي تلغي عقله، وتقيد تفكيره، وتجعله تابعا ليس له من قرار حياته شيء، ولعل بعض صور القبيلة اليوم وأمس تحكي واقعا مؤلما لأنواع من العصبية الفكرية التي ألغت إنسانية الفرد وحريته، بل ربما تسلب له روحه. وهل أنا إلا من غَزِيَّة إن غوت غويتُ، وإن ترشدْ غزية أرشد فأي طغيان بلغت العصيبة القبلية فيه، فالهدى والضلال والنور والظلام، بل الحياة والممات بنزعة ربما لا تعرف أسبابها ولا عواقبها. فشيخ القبيلة غالبا هو صاحب الرأي والقرار والحكم، وعلى الجميع التنفيذ فقط دون تردد أو تأخير، لا نقاش ولا حوار، وإن لم تفعل يلحقك العار والرزية وتعتبر خارجا عن نهج الآباء وعرف القبيلة. العرف الذي سن قوانين وأحكام خاصة بفئة من الناس، فيه من الحلال والحرام ما يخصهم دون غيرهم، فهو شريعة مستقلة داخل شريعة أكبر وهي الإسلام. فأي عرف أو قانون يمنع المرأة من الميراث، بعد أن كتب الله لها ذلك، وأي عرف يمنعها من التعليم وحق اختيار الزوج، وأي عرف يجعل الشخص يقاتل فيقتل أو يقتل من أجل أسباب في غالبها لا تذكر لسفاهتها وحقارتها. إنها عبودية الفكر وصنمية الأشخاص هي التي جعلت أبا طالب يموت مشركا، وهو يعرف ويعلم صدق رسالة النبي، عليه الصلاة والسلام، ولكنها العصبية العمياء التي تبيع العقول وتدمر التفكير وتسلب الحرية وتقيد اتخاذ القرار. الأعراف والعادات القبلية إن لم تضبط بضابط وقيم الإسلام، فهي وثنية وجاهلية بكل معانيها مهما غُلفت بأغلفة براقة وجذابة، فهي وثنية متقدمة تبيع الوهم لتسلب العقول، وتعطي الكذب لتأخذ الإنسانية. فلم يستخف فرعون بقوة قومه ولا منعتهم، ولكنه استخف بعقولهم وتفكيرهم فقادهم إلى المصير السيئ والحتف الأسوأ. إن أهم معاني الإسلام الذي جاء ليعززها في النفوس هي الحرية من قيود العباد، والفكاك من هيمنة التفكير التي تقود إلى العبودية لغير الله تعالى. فأي جيل ينشأ على وثنية وتقديس الأعراف والعادات القبلية على حساب شريعة الإسلام ينشأ مشوها فكريا مختلا أخلاقيا، ومتخلفا سلوكيا، يتبع ولا يقود، يقلد ولا يبدع. فمرحبا بالقبيلة التي تبني عقلا وتحارب جهلا وتصنع مجدا، مرحبا بعادات تعزز القيم وتنشر الفضيلة ومعاني السلام، مرحبا بالقبيلة وطنا للجميع وميدانا للأخوة والترابط.