لمحة سريعة على خارطة العالم الحديث تبين لنا أن الحدود الفاصلة بين الدول أخذت شكلها النهائي بناءً على عامل اللغة، فاللغة اليوم هي الوسيلة السياسية الأهم في توحيد الشعوب وإرساء دعائم الوطنية بين أفراد المجتمعات، فالحقبة الاستعمارية وعالم ما بعد الحروب العالمية وما تلا هذه الحقبة من هجرات جماعية، كل ذلك كان عامل اللغة طرفا ثابتا فيها، وأن دراسة بانورامية لحرب اللغات التي يخوضها المتكلمون على كوكب الأرض منذ قرون ستجد أنه بالإمكان قراءة تاريخ البشر من خلال صراعاتهم اللغوية. الحرب بين اللغات حقيقة واقعية يثبتها التاريخ، وأغلب الدراسات لأي ظاهرة لغوية في العصر الحديث تكون السياسة طرفا فيها، حيث أن أغلب السياسات اللغوية المتبعة اليوم والأبحاث والدراسات والنظريات ليست في الحقيقة إلا محاولات لقهر الجماعات اللغوية المناوئة لها. ورغم القبول الشكلي بالتنوع اللغوي فإن أغلب سياسات الدول الحديثة تسعى إلى فرض اللغة الواحدة وترسيخها في كل المجالات، بل ونشرها خارج الحدود حتى لو تطلب الأمر تقديم المعونات الاقتصادية للدول الفقيرة. والمجتمعات العربية اليوم تعيش هذا الصراع اللغوي داخل مجتمعاتها مع اللغتين الإنجليزية والفرنسية على وجه التحديد سواء في المؤسسات التعليمية أو شركات القطاع الخاص وحتى داخل أروقة الدوائر الحكومية. وصراع العربية مع اللغات الأجنبية داخل المجتمعات العربية سيولد مع الوقت شكلا من الطبقية أو الفروقات الاجتماعية بين المتحدثين، فيصبح اختيار الشكل اللغوي له دلالة إيحائية، فحين يتحدث المواطنون العرب اللغة الفرنسية -لغة المستعمر- فذلك يوحي بأنهم يريدون محاكاة نموذج غربي، ويصبح التحدث باللغة الأجنبية دلالة بأن هؤلاء المواطنين من الطبقة المتعلمة أو من فئة حاملي الشهادات. والمجتمع نفسه سيتشرب مفاهيم خاطئة حول اختيار لغة التعليم، وسيفرض الآباء والأمهات تعليم اللغة الأجنبية على أطفالهم؛ كونها تمثل لغة العلم والتطور والمستقبل المشرق، مع الأخذ بالاعتبار أن الإنجليزية هي السائدة في أغلب شركات القطاع الخاص، وإتقانها أحد أهم شروط التوظيف في سوق العمل، لذلك فإن معركة اللغة العربية مع اللغات الأجنبية في سوق العمل المحلي معركة خاسرة، لذلك يسهم سوق العمل في تقليل فرص تداول العربية في بورصة اللغات، وهذا لا يصب في صالح سوق العمل العربي بقدر ما يربط مصير الاقتصاد المحلي بالاقتصاد الخارجي، فسوق العمل أسهم في تكريس الفروقات الاجتماعية من خلال إدارة التنوع اللغوي في المجتمع بصورة خاطئة كان نتيجته غياب العربية في التخصصات العلمية في الجامعات العربية وفي مراكز البحث العلمي. نتج عن سعة انتشار اللغة الأجنبية داخل المدن العربية التي تمثل مراكز التجمع الإداري وبؤرا لانتشار قطاعات الأعمال زيادة ملحوظة في أعداد المدارس الأجنبية التي تدرس الطفل بلغة أجنبية منذ نعومة أظفاره، وتتوزع داخلها مئات المعاهد لتعليم اللغات الأجنبية، فتدريس اللغة الإنجليزية تحول إلى صناعة وعملية اقتصادية مربحة تتناسب مع سعة انتشارها طرديا مع انحسار ملحوظ للغة الوطنية، وهذا الانحسار له تبعاته الثقافية والاقتصادية دون أدنى شك. هذا التخطيط اللغوي غير المدروس والإدارة الخاطئة للتنوع اللغوي الاجتماعي سيحولان اللغة الوطنية إلى لغة دنيا داخل المجتمع العربي أو سيجعل منها لغة فلكلورية أو دينية يقتصر دورها داخل دور العبادة، ناهيك عن فقدان الانتماء للغة التراث والحضارة، ما يترتب عنه بالضرورة الانتماء للوطن نفسه، في عصر تعد اللغة هي العامل الرئيس في توحيد الهويات وترسيخ الانتماء الوطني.