منذ بداية الانتفاضة السورية، كانت هناك مخاوف من أن تتطور الأزمة إلى حرب أهلية تؤدي إلى انقسامات كبيرة، وربما إلى حرب إقليمية يصعب السيطرة عليها والتحكم باتجاهاتها، ما لم يتدخل المجتمع الدولي بحزم للمساعدة في وضع حد لعمليات القتل اليومية التي تجري منذ الأيام الأولى في سورية ويدفع ثمنها بشكل أساسي المواطنون الأبرياء في الشارع السوري. ورغم مرور أكثر من 14 شهرا على بداية الأزمة، وسقوط أكثر من 10 آلاف قتيل حتى الآن، لا تزال الأزمة السورية تراوح في مكانها دون أن يكون هناك بوادر حل حقيقي يوقف نزيف الدم. لكن ما حدث في الأيام والأسابيع الأخيرة من تطورات في الأزمة يثير القلق بشكل حقيقي من أن تمتد الاضطرابات السورية إلى دول مجاورة، وبخاصة لبنان، وتشعل حربا أهلية لا تكون سورية ساحتها الوحيدة. فقد تحقق الكابوس الذي كان الكثير من المراقبين يتوقعونه ويخشون منه في الوقت نفسه، ووصلت الأزمة إلى قلب لبنان. وقد نشر "معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى" مؤخرا تقريرا عمَّا وقع من أحداث في لبنان خلال الفترة القصيرة الماضية ومدى تأثر ما حدث بتطورات الأزمة في سورية. فقد أفادت التقارير عن اشتباكات اندلعت في بيروت بين بعض الشباب المسلحين المؤيدين لفصيلين من السُنة - أحدهما "تيار المستقبل" المناهض للرئيس السوري بشار الأسد بقيادة سعد الحريري والآخر "حزب التيار العربي" الداعم للأسد بقيادة شاكر البرجاوي. وقد استخدم الطرفان أسلحة أوتوماتيكية وبنادق قنص وقذائف صاروخية. وأفادت التقارير أن المصادمات أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 3 أشخاص وجرح 9 آخرين. هذه الاشتباكات جاءت على خلفية مقتل رجل الدين السُني الشيخ أحمد عبدالواحد وزميل له بالرصاص في سيارتهما عند نقطة تفتيش تابعة للجيش اللبناني في شمال البلاد. وأفادت التقارير أن جنديا شيعيا هو الذي ارتكب ذلك العمل. وقد سبق هذا الحادث سلسلة من الاشتباكات في طرابلس وقعت خلال الأسبوع الماضي بين السُنة والأقلية العلوية هناك. وقد اندلع القتال نتيجة اعتقال شادي مولوي - أحد النشطاء الإسلاميين الذي كان يقدم المساعدة للاجئين السوريين. ويرى العديد من السُنة أن إلقاء القبض على رجل تتهمه الحكومة السورية بالإشراف على أنشطة إرهابية يُعتبر بمثابة خطوة مبالغ فيها بالنسبة لبيروت في استرضائها لدمشق. يقول تقرير معهد واشنطن إن السُنة خرجوا إلى شوارع بيروت في 20 مايو حيث أغلقوا الطرق وأضرموا النيران في صناديق القمامة في مناطق كورنيش المزرعة والكولا وطريق المطار وعائشة بكار وفردان وملعب المدينة الرياضية في الطريق الجديدة. وبحلول منتصف الليل أخلت عناصر الجيش معظم أنحاء العاصمة من المتظاهرين وقامت بإطفاء النيران المضرمة في صناديق القمامة وكثفت من تواجدها الأمني بحيث كان ذلك الدليل الوحيد على قيام المظاهرات. وفي منتصف الليل تقريبا أجرى البرجاوى اتصالا هاتفيا مع القناة الإخبارية اللبنانية "الجديد" - التي كانت قد بثت الاشتباكات بصورة مباشرة - مخبرا إياها بأن "حوالي 300 رجل مسلح" كانوا يحاولون السيطرة على مقر الجماعة في المنطقة المجاورة، وطالب الجيش بتقديم المساعدة. وبشكل مثير، اضطر البرجاوي إلى تعليق الاتصال فجأة بعد أن قتل حارسه الشخصي برصاص قناص. وقد تم لاحقا إخلاء مقره بعد أن وصل الجيش لإنقاذه هو وأنصاره. وفي مؤتمر صحفي بعد ذلك بقليل ادعى البرجاوي أن تلك الهجمات جاءت بناءا على توجيهات من القيادة العليا في "تيار المستقبل". احتمالات احتدام الأوضاع من اللافت أن المصادمات في بيروت وقعت بين فصيلين من السُنة، وهو ما يعني أن القتال هناك لم يأخذ صبغة طائفية. ورغم ما أوردته التقارير من أن السكان في مناطق مثل تلك التي يسكنها الشيعة، وضاحية المدينة الجنوبية التي يسيطر عليها «حزب الله»، وتلك التي يسكنها الدروز الواقعة في الجبال أعالي بيروت قد سلحوا أنفسهم ووضعوا مناطقهم في حالة تأهب قصوى، إلا أن تلك المناطق فضلت حتى الآن أن تبقى بعيدة عن أعمال العنف. وترجع الضغائن بين "حزب التيار العربي" و"تيار المستقبل" إلى عام 2008، عندما انشق الأول عن «تحالف 14 آذار» المناهض لسورية وانضم إلى «تحالف 8 آذار» المؤيد لسورية. وفي مقابلة مع تلفزيون "الدنيا" في سورية في شهر مارس الماضي، صرح البرجاوي "مهما يحدث في سورية فإن ذلك سيحدد مصير العالم". وأعرب عن دعمه لنظام الأسد و"المقاومة" في العراق، وفي لبنان، وضد إسرائيل. إلا أن احتدام الأوضاع على نطاق أوسع لأسباب طائفية لا يزال أمرا محتملا. ويرى العديد من أنصار "تيار المستقبل" أن الدولة اللبنانية قد فشلت في البقاء على الحياد في أزمة سورية، وأصبحت شريكا لنظام الأسد في إحباط أي جهود لبنانية ترمي إلى مساعدة المعارضة. وفيما يتعلق بقتل الشيخ عبدالواحد، على سبيل المثال، صرح النائب عن "تيار المستقبل" خالد ضاهر لوكالة رويترز "لو أُطلقت النيران على الإطارات لقلنا إن ذلك كان خطأ. لكننا نرى ذلك بمثابة استهداف مباشر من الجيش". وردا على حادث إطلاق النار هدد الشيخ السني أحمد الرفاعي بتشكيل "الجيش اللبناني الحر" في شمال البلاد، استنادا إلى الفكرة بأنه على الرغم من أن الكثير من الجنود في الجيش هم من السُنة (وخاصة في الشمال)، إلا أن مجموعته غير ممثلة في أزمة سورية. رسم خطوط على الرمال في جنازة الشيخ عبدالواحد وزميله، شوهدت أعلام المعارضة السورية، ولوح المتحدثون بالتهديدات ودعوا إلى إجراء تحقيق. فمن ناحية زعم بيان ألقي نيابة عن عائلة عبدالواحد أن الجيش خطط لقتله وطالب باستقالات من بين قيادات الجيش. وأشار البيان إلى "أننا لن ننتزع حقوقنا الخاصة بأنفسنا من خلال السعي إلى الانتقام، لأن ذلك سيؤدي إلى وقوع حرب أهلية. سنترك للجيش الوصول إلى حل للوضع". وألقى النائب اللبناني خالد ضاهر خطبة مطولة طالب فيها بالقصاص لمقتل الشيخ عبدالواحد وزميله، ودعا إلى اعتقال ومحاكمة نقيبين وملازمين و19 جنديا اتهمهم بالضلوع في إطلاق النار. وأضاف ضاهر "أنهم يستحقون الشنق جراء تآمرهم ضد الشيخ أحمد والشعب اللبناني". وقد حاكى ما ذكره الشيخ رفاعي بإلقاء اللائمة على كل من بيروت والاستخبارات السورية واتهمهما بمقتله، وأكد أن معظم الجنود في الجيش اللبناني هم من شمال البلاد "نحن عصب الجيش اللبناني، فقد بنينا هذا الجيش بدموعنا ودمائنا... نقول للحكومة السورية إن الشيخ عبدالواحد دفع الثمن لأنه ساعد الشعب السوري ضد النظام... وبمساعدة عكار وطرابلس سوف نقاتل السوريين". وفي غضون ذلك، قام المحتجون في أجزاء من شمال لبنان بإغلاق الطرق من خلال حرق الإطارات، ثم قام الجيش بفتحها ليجدها تغلق مرة أخرى وهكذا دواليك. وفي عكار، قال متحدث باسم مجموعة كبيرة من المسلحين لأحد مراسلي "المؤسسة اللبنانية للإرسال" بأن الجيش "لا يعني شيئا بالنسبة لنا"، وأن لدى السلطات الوقت "من الآن وحتى دفن عبدالواحد" لاعتقال المسؤولين. وقد تعهد بأن الأسلحة المعروضة لا تمثل شيئا، محذرا "أنتم لم تشاهدوا أفضل أسلحتنا بعد". التداعيات ينظر إلى الجيش تاريخيا على أنه المؤسسة الموحدة في لبنان حيث تخدم فيه سوية جميع الطوائف في البلاد. وبدون الجيش يمكن للمرء أن يرى لبنان ينحدر إلى إقطاعيات طائفية. والواقع أن من بين الأزمات الكبرى التي سببتها الحرب اللبنانية عام 1975 هي تفكك الجيش وفقا لتقسيمات طائفية، مما أدى إلى حلقات مستمرة من إراقة الدماء والدمار. وخشية تكرار تلك الحلقات يجب على الجيش أن ينتقي معاركه، وهو ما دلل عليه قراره ضد التدخل بين "تيار المستقبل" و"التيار العربي". ويتمثل الجانب الأكثر إثارة للقلق في الاشتباكات الأخيرة والتوتر في شمال البلاد، في الرؤية التي ينظر إليها العديد من اللبنانيين إلى الجيش اللبناني بأنه فقد استقلاله ويستخدم ليقاتل في معركة سورية. وقد أدى ذلك إلى حدوث استياء واسع النطاق في صفوف السُنة، وهو ما اتضح من تهديد الرفاعي بتشكيل قوة منشقة. إن وقوع اشتباكات في المستقبل وغيرها من الأعمال التي تزيد من حدة التوتر داخل لبنان يمكن أن تؤثر على استقرار الجيش. ومن المرجح أن يستمر الجيش في مواجهة اختبارات إغلاق الطرق وقيام احتجاجات وربما تجدد القتال في المستقبل القريب. ويقر تقرير معهد واشنطن أن احتمالات حدوث المزيد من الاضطرابات ربما تسوغ دعوة قطر والإمارات العربية المتحدة والبحرين لمواطنيها لمغادرة لبنان. وطالما استمر النزاع في سورية، فسوف يتعرض السلام والأمن في لبنان لمخاطر متزايدة.