تقوم الرواية بدور مؤسس فى نقل الوعى بالمجتمعات من هباء ما قبل التاريخ الإبداعى إلى ضمير العصر الحديث. وأحسب أن رواية عبدالله بن بخيت «شارع العطايف» يمكن أن تعتبر إحدى هذه النقلات الكبرى فى الأدب العربى فى السعودية، حيث توازى مثلا «زقاق المدق» لنجيب محفوظ فى كشفها لجذور البرجوازية ونماذجها المطحونة بالحاجة والشهوة والطموح، كما تغوص فى أعماق المجتمع السعودى الذى تدثر بالصمت، وتصور أن تاريخه الوجدانى يبدأ بعد طفرة النفط، ولم تستطع إطلالات الأدباء الزوار من العرب أن تكشف عن عصبه الحقيقى، حتى جاء عبدالله بن بخيت فقدم أقوى تمثيل جمالى قرأته لنماذج إنسانية فيه، تصدق عليها عبارة مكسيم جوركى «هؤلاء كانوا بشرا»، وتسلط عليهم ضوءا نافذا قبل أن يندثروا أو يفلتوا من قبضة الذاكرة الإبداعية. مع كل ما يتطلبه ذلك من شجاعة فائقة فى بلاد تعودت على التظاهر بالقداسة وتوزيع تهمة الإثم على محيطها العربى، فى المدن التى دخلت تاريخ الفن والوعى قبلها، واكتفت هى بالتحريم والتجريم، بقطع الألسنة وإنكار الوقائع وترويض وسائل الإعلام العربية بدهاء حتى تمتثل لهذه البراءة والطهارة المزيفة، لكن هاهم أبناؤنا المؤسسون لوعى حقيقى جديد بها يعيدون تخليق ماضيها القريب، ويحركون الدود المنبث فى طياته وهم يصورون مجتمعها فى أسفل دركاته من عبودية الشهوة واحتراف الجريمة وانتهاك نبل الطفولة والأنوثة، لكنه تصوير جمالى مدهش للقارئ، موقظ للضمير الجماعى، شارح للظواهر الناجمة عنه فى حياتنا اليوم. أحشاء القرية رواية «شارع العطايف» تغوص فى أحشاء قرية سعودية «حلة ابن بخيت» لا يهمنا أن تكون ماثلة على الخارطة أو نابعة من الخيال، لأن النموذج الإبداعى مثل الهندسى يحاكى القوانين والعلاقات القائمة على الأرض قبل أن يسجلها حرفيا، ويكفينا أنه يتابع خطوطها قبل أن تمحوها الجرافات التى تمهد لطريق الملك فهد السريع الذى يربطها فيما يبدو بجزيرة اللؤلؤ المتاخمة لها، وتصور بلقطات متأنية تحول الحياة المدنية فيها منذ «كانت الحروب تندلع بين الحارات فى شهر رمضان، بعد (فطيس) من آخر رجالها الأوفياء، سيطرت عليها الشرطة وألغتها لم يبق منها سوى الحساسيات فى النفوس والتحديات المعزولة التى تندلع فى بعض الأحيان بين المتطرفين، أصبح المرور بين الحارات خطرا، عصابات صغيرة قليلة تترصد الناس وتقيدهم عند مدخل كل حارة، ولكن معظم الأجيال الجديدة تحولت من المضاربات المجانية إلى المنافسات الرياضية التى تصحبها أحيانا صراعات دامية، يثيرها شباب مازالوا على بقايا ولاء لثقافة الماضى، يحاولون إدخال رغباتهم الشاذة على صراع الكرة، سهلت لهم الكرة الفرصة عندما اجتذبت صغار السن الذين استهوتهم أمجاد اللاعبين». فى هذه اللفتة الوجيزة التى تشير إلى التحول من عصر الفتوات إلى عصر النوادى الرياضية يفضح الراوى بأدب جم، ثم بطريقة مكشوفة مفصلة فيما بعد، مشكلة الجمال فى المجتمع السعودى ومعادلته الحرجة بين الرجال والنساء، إذ يحكى بصدق قصة مذلته وانتهاك عرضه عندما كان حبيبا وسيما مقبلا على الحياة ومتلهفا على الاقتران ببنت عمه «نوف» التى فتنته بعجيزتها أيضا عندما احتضنها مرة من الخلف ثم تجاهلته بعد ذلك، لكن حياته أخذت «تقوم على حسابات معقدة، لقد انتهت رغبة سويلم وغيره فى جسده، ولن يسمح للشاذين أن يعودوا مرة أخرى، كان يعرف أن لذة جسده قد انتهت وحل محله صبيان صغار، بعضهم يسير طوعا وبعضهم يسير بانكسار، صراع الشهوات يتواصل عبر الأجيال، صحيح أن عددهم نقص مع ازدياد حمى السفر إلى جزيرة اللؤلؤ واكتشاف قرندول.. كل امرأة نام معها هناك كانت تضمه وتتنهد وتسمح له أن يقبل فمها، لم يأسف يوما ما على وسامته الغابرة، كانت أكبر عون على تحطيم حياته، كان يمكن أن ينجو كما نجا سعندى صديقه المماثل له فى السن لو كان قبيحا مثله، وسامته نفعته فى قرندول وحطمته فى الرويض، وقبح سعندى نفعه فى الرويض وحطمه فى قرندول»، ومع أن أسماء المناطق والبلاد المجاورة تبدو رمزية قد تشير للبحرين مثلا فإن معادلة جمال الراوى وقبح صديقه فى الداخل والخارج مع الرجال والنساء جعلته يتحول إلى سفاح بدم بارد، يضع خططا محكمة لتصفية كل من دنس جسده أو انتهك عرض معشوقة طفولته، فالفحيج وهذا هو اسمه الدال هو راوى الثلث الأول من الرواية، وهو يحكى أسطورة انتقاماته وشهواته منذ أن فقد أمه وعرف كيف يدبر جرائمه، عالم من الخطيئة الموغلة فى تشوهها وشذوذها يفضح فى قلب هذا الفضاء الذى يحسبه الناس الطيبون مفعما بالطهر وريح الجنة، يرصد تحولاته الاجتماعية وعيوبه الخلقية، وقد يقوم بتكبير شروره خلال التمثيل الجمالى لأسراره، رغبة فى التعويض العادل عن المسكوت عنه من خلل فادح فى بنيته الأخلاقية. هل يتحرر العبيد؟ يتناوب السرد فى الرواية ثلاثة رواة، فيأتى بعد الفحيج شنغافة وكلاهما اسم مستعار وهو عبد انتقل صوريا من الرق إلى الحرية، حيث أعتقته الأميرة بسبب مرض ألم بها «لم تكن له وظيفة محددة سوى أنه عبد، ديكور للعمات اللواتى يقتنين العبيد حبا بالتظاهر فقط، فى بعض الأحيان يكون إلى جانب عمته وأبنائها من الأمراء عندما يدخلون السوق يلبسون الملابس المزركشة وطاقيات الزرى، كان لابد أن يصطحبوه معهم فهو الدليل الأوضح على أنهم أمراء» والملاحظ فى الرواية عموما أنها تأخذ جانبا محايدا تجاه الأمراء والأميرات، فهى لا تستعدى السلطات العليا الحاكمة وتشير ببرهم ورعايتهم للفقراء، وحسبها أن تنقد بعنف سلطة المجتمع والنواب المطوعين بنفاقهم واستغلالهم للدين، وقد اشتغل شنغافة بعد تحريره بتخمير العرق وبيعه سرا، ثم وقع فى هوى «معدية» الأرملة الحسناء التى تسعى على رزقها بالبيع فى الأسواق، وعاش معها تجربة الانتقال من شرعية الزواج إلى شرعية الحب الذى يضفى على علاقات البشر فى تقديره تبريرها الكامل ويجعل لحريتهم معنى، لكنها تختفى قبل أن تحتفل معه بيوم العيد وتلبسه البدلة الأنيقة التى اشترتها له، فيمكنه فى تجارة الخمور رغم التحريمات، ويصور انتشار حمى شرب الكولونيا التى يسميها المتعاطون «الخرش» «حيث مات كثير من المخرشين فى فرشهم.. شددت السلطات قبضتها على المحال والأسواق العامة والحراج، ثمة قوارير تأتى عن طريق الجمارك بشكل رسمى، وبعضها الآخر عن طريق التهريب، تفاقمت مسألة التسمم فكان للمطاوعة رأى آخر.. ترك القوارير السامة إلى جانب الآمنة لتخويف المنحرفين، وإذا لم يرتدعوا خلوهم يموتون حتى لا يبقى منهم أحد كما يردد الشيخ سالم رئيس مركز نواب ومطاوعة حلة ابن بخيت» هذا الشيخ سالم هو الذى يتربص بشنغافة ليقبض عليه متلبسا بالسكر، ويلفق له تهمة ممارسة السحر ليتم إقامة الحد عليه وقطع رقبته بالسيف فى الساحة، وتتكشف الحدود الشرعية عن مجرد وسيلة لتدبير الانتقامات وتشويه أجساد البشر، بل وتصفيتهم بدم بارد دون أن ترف عين أو يرتفع صوت بالاعتراض على الظلم البين. وإذا كان الراوى الأول قد أفلت بكل جرائمه، والثانى قطعت رقبته دون جريرة فإن الثالث وهو رفيقهم القبيح «سعندى» يحى قصة أسرته الموشومة بعلامات الجدرى المتوارث فى العائلة والذى يترك بعض أبنائها أعمى وبعض بناتها مشوهات، ولا يكاد «سعندى» ينجو من هذا المصير حتى يقع فى حمأة الأمراض السرية المتوارثة بين أجيالهم والمضاعفة بالعدوى المتجددة، حيث يفتتح الفصل بمشهده وهو ملقى على سرير فى مصحة يتراوح بين فقدان الوعى وتذكر شريط الحياة، خاصة صولاته وجولاته بين بنات الهوى فى جزيرة اللؤلؤ، حيث كان شددوا إلى بنت مستورة لاحظ مفارقة التسميات الضدية «ما إن يصل إلى الجزيرة حتى يتجه إليها، لا يعرف كيف عولج الأمر فى قلبه، حب مستحيل بجميع المقاييس، لا يمكن أن تمر فى باله كلمة زواج، لا يمكن أن تكون حتى صديقة ولا حتى عشيقة، إنها امرأة ضاربة فى المجهول، بلا هوية عاطفية تنتسب إليها، لكنه مشدود إليها بلا هوادة، يضطر أن يتدبر الفلوس كى يسافر إليها، أوقع نفسه وأوقع أقاربه فى كوارث مالية كبيرة كى يؤمن تكاليف السفر إلى بنت مستورة، يأتى إلى القرندول ويقف فى الصف للدخول عليها، يسبقه عدد من الرجال، عشرة فى بعض الأحيان، لا يتحسر ولا يشعر بأدنى غيرة منهم، لا يمكث الرجل بين فخذيها أكثر من عشر دقائق، كل زبون عليه أن يدخل مستعد الرجولة، ومن فشل عليه أن يخرج فورا ويعود مرة أخرى بأجر جديد وأن ينتظم فى الصف ثانية، لا وقت للإثارة» ومع أن الراوى يموت بالفلس فإن صورة هذه النماذج وما يحيط بها من رجال ونساء تمثل قطاعات تلتقط حالات هذا المجتمع فى حله وترحاله، فى نماذجه المشوهة وضمائره المستقيمة، فى قيمه الملفقة ومظهره الذى لا يخدع أهله، بطريقة تجسد جذوره وبواطنه الكامنة فى قاع مكانه وأغوار زمانه، كل ذلك يتم بسرد متدفق ووصف حاد، يحملنا أن ندرك بعمق درجة اختمار الغرائز وشطط الميول فى تكوينه الإنسانى قبل أن تستره عباءة المال أو التدين السطحى، وتظل الرواية هى الوسيلة الفعالة لكتابة تاريخه الحميم وتطهيره بالاعتراف كى يعرف قدرا من التوازن الروحى الحقيقى. نقلا عن الشروق المصرية الجمعة