توصيفات عبدالله بن بخيت تؤكد حقيقة جمالية مفادها أن وعيه كروائي يتجاوز وعي أبطاله. وهو لم يحقنهم بكل ما يعرفه ليحافظ على المسافة الضرورية في معظم مفاصل الرواية، ولكن يبدو أن تلك المسافة كانت تأخذ بالتقلص كلما اقترب من النهاية، لدرجة أن نبرته اكتسبت شيئاً من الإدانة لمعشر الرجال، كما يتبين من كثرة طرقه على مفردات (الرذيلة والعار) وكأنه نسي حياده فاندس في ضمير الشخصيات، نتيجة الانفعال بدراما الحدث، فصار ينوب عنهم في الكلام والتوصيف، خصوصاً عندما انتقل بهم إلى مدار آخر. إلى مدينة فاضحة ذات طابع سدومي، بمقدورها الكشف عن النوازع الخفية للنفس البشرية، أي بعد أن ضاقت بنزقهم (الرويض) التي كانت مجرد تمرين تأهيلي لرذائل أكبر. وبعد أن صارت (سكيك حلة ابن بخيت) بمثابة المكان العدو، حيث النوّاب الذين لا تفتر عزيمتهم يتربصون ببيت (السويمي) مكان لهوهم وسمرهم، ولم يعد أمامهم إلا المبغى الشهير في جزيرة اللؤلؤ (قرندول) حيث قرر سعندي الفرار من قدره كمحرّج غنم كوالده، ليرتمي بكل حرماناته وعوزه العاطفي والجسدي في متاهة جسد (بنت مستورة) المشاع للجميع، حيث سيرتطم بامرأة «ضاربة في المجهول، بلا هوية عاطفية تنتسب إليها». هكذا أراد أن يجعل من الحنين إلى الوهم مكمناً للوجع العاطفي، وهذا ما حدث له بالفعل في المزار الذي اجتذب سعندي حتى صار يتقدس بتكرار زياراته، ليتأمل بمنتهى الخيبة والشبق والانكسار «جسدها مستلقياً بكل أنوثته على الفرشة المهترئة. ملاك ممدد في بيت الرذيلة». ولم يكن بمقدوره إلا أن يصم أذنيه ويغلق عينيه عن كل ما يسمعه ويشاهده في جنبات الماخور عن حقيقة كونها. وكم اشتهى أن يرى المرأة التي كفته منّة نساء الرويض المخبآت عنه في وضع يليق بمعشوقة، بحيث لا تنتظر أن يدهمها جسد رجل، كما تمنى أن يشاهدها ولو لمرة واحدة وهي كاسية عورتها، وفي حالة غير وضع الاستعداد للامتطاء وتوزيع ما يسميه «عدالة جسد البغي». لكنها لم تكن تعرف إلا الاستلقاء تحت ثقل وقذارة أجساد محمومة بالرغبة، أما هو فلم يكن أقدر إلا على الرضوخ للتشارك مع الآخرين في جسدها، حتى أصيب بالسفلس ومات في لندن بعد أن انضم مع بقية أصحابة إلى قائمة الدكتور (الوخاوي) كضحايا لنزواتهم التي خطت أقدارهم. هناك، في ما يسميه (كتاب قرندول الحزين) لا بد أن تنبت شخصية تليق بلغز المكان وحيويته، حيث ستتراجع أهمية دليلهم البدائي ابن سويقي مندوب قرندول في الرويض، ليتعرفوا على القواد الحكيم حسينوه أبو اصبع فيلسوف الرغبات الذي «يتأمل في البشر الذين يخوضون في الحضيض». حيث سيحدثهم عن «الرجال الذين يأتون هنا لينحدروا إلى قاع رغباتهم». وسيصفعهم بسفالة أرواحهم ووضاعة نفوسهم وبحقيقة أن «قرندول عالم قائم على الاحتقار المتبادل. وبمنطق العارف بأهواء النفس البشرية وتقلبات أوجه الحياة، سيستعرض لهم أقدار نساء لا تقل بؤساً عن مآلاتهم. عن مبروكة أقدمهن في قرندول منذ أن ماتت رجاء الشامية، التي صارت «رمزاً للعار الذي ارتكبه الرجال في تاريخهم كله». عن صراعاتهما الهبائية على اقتناص الرجال الطارئين قبل أن تدخلا في حداد جسدي كئيب «في عز الشباب كانتا تصرخان أيهما أجمل، وانتهتا تصرخان أيهما أقبح. مشوار مرّ للتحول من الجمال إلى القبح». أما بنت مستورة فلم تصنع حتى لحظة انغرام سعندي بها حكايات تستحق السرد. ولأنه يكتب من داخل الحالات، ولا يكتفي بوصفها من خارجها، يمكن الإحساس به إلى جانب شخصياته على الدوام في كل مفاصل الرواية، وهي تتشكّل على مرأى منه، وبعناية لغوية على درجة من الدقة والشفافية، حتى الشخصيات المساندة، التي تحتشد على هامش الحدث لا تبدو منسية، إذ تعبّر في المشهد بالقدر الذي يتطلبه السرد، كما يتبيّن في وصفه المعراجي لرحلاتهم إلى فضاء الماخور، إذ كانوا يصطفون إلى جانب ذوات تائهة، «ينتظرون في الممر على سحاحير خشبية مع رجال لا ينظر بعضهم إلى بعض ولا يتحدثون. كل واحد يحاول أن يخفي وجوده عن جاره. يتظاهرون بأنهم غير موجودين هنا». وهذه هي طبيعة الأعمال الإبداعية المتأتية كثمرة افتتان لحال أو شيء أو مكان أو لحظة، فهي من القوة والجاذبية، بحيث لا يمكن تجاوزها إلا برغبة تأوينها في الذاكرة، أو الإيغال في تعتيقها، إذ أسهم ولعه الواضح باللحظة في زحزحة لأهم ركائز الخطاب، الذي سيطر على الرواية في السعودية، كما تشير الدلائل الفنية والموضوعية الكامنة فيه، بمعنى أنه أحدث نقلة أشبه ما تكون بالخطفة لمواضيع الخطاب الروائي. «شارع العطايف» ليست رواية جيل، بل هي سيرة شريحة اجتماعية داخل لحظة تاريخية ذات نكهة نادرة، وهي بالتالي تاريخ اجتماعي. وهي مكتوبة بإيحاء من الوثيقة التاريخية، وليس وفق اشتراطاتها، والأهم أن النص ارتقى ليصل إلى حافة المرجع أو الوثيقة. وربما تكون رغبة هاجعة في نفس عبدالله بن بخيت لإعادة الحياة لذلك الزمن المحبوس في كمون الذكرى، فالسمة التذكارية للسرد تنأى به عن (الاختلاق)، ولا تبشّر ببراءة اللحظة، أو تبالغ في ادعاء بالبطولات. وهنا يكمن المغزى الأخلاقي لطابعها الواقعي، فهي مكتوبة من وجهة نظر المضطهدين، وبنبرة منبثة من أنينهم، من دون أن يهبهم داخل سياق روايته أي قوة استبصارية تقفز بهم فوق مرارة اللحظة، الأمر الذي يكشف عن سر استئناسه بالتموضع على مسافة من اللحظة الحاضرة، ونسج مصائرهم بحنان. ليس هروباً من استحقاقاتها كما يبدو، إنما افتتاناً بلقطة آفلة أثيرة على نفسه، وهو الأمر الذي يفسر أيضاً من الوجهة الفنية حضور الزمن ككتلة صلبة، أو كوحدات زمنية مسكوكة، لا تنشطر ولا تتعاقب ولا تستقطع إلا باستئنافات لغوية، وبالمرور العابر على متعلقات تفوح منها رائحة ذلك الزمن المتخثر. إنها رواية لم تكتب وفق مقولات السلطة بكل تجلياتها الدينية والسياسية والاجتماعية وبكل ضروراتها المتداولة، إنما خارج مواضيعها، وبمعزل عن تأثيرها تماماً، وبنبرة موائمة بين الشكل الروائي الذي اجترحه وطبيعة الوسط الاجتماعي المستهدف، فأبطاله الراكسون في القاع الاجتماعي من دون هواجس سياسية، ومن دون استيهامات ثورية، ومن دون لهاث وراء أحلام مستحيلة، ومن دون أدنى رغبة لمقارعة الأعراف واكتساب حقوقهم المركولة بالأقدام، أي من دون أي تعاليات عمودية كما تفترض سوسيولوجيا المضامين، ليس لأنهم خارج الفضاء الثقافي وحسب، ولكن لأنه أراد لكل واحد منهم أن يفكر في الكيفية التي يطفو بها على الخراب، وفي الطريقة التي تكفل له الفرار من قدر البؤس، وهو الأمر الذي يفسر اندفاعهم في الملذات الطارئة، وإشباع حواسهم بالعاجل من الرغبات، إذ ينهض الجسد اليومي كمعادل أنطولوجي لمقاومة طقس الموت، وحيث يحتقن كل واحد منهم بفكرة كونه هو الوحيد المقيم في الجحيم، وهنا مكمن الانفضاح الذي يتولد من الإحساس العام بانتفاء المأساة الشخصية، وبموت الجماعة في ما يشبه الإقرار بعدم إمكان التماهي السعيد بين الإنسان والعالم، من خلال جسد يومي منكل به، أراده بمعزل عن الشعائرية والقدسية. * ناقد وكاتب.