إن اللسانيّة اللغويّة الحديثة تُقدّم خدمة جليلة لنحونا العربيّ خاصة أنها ليست نقضا للسابق، أو استنقاصا منه، بل الغالب أنها تُعيد صياغة السابق صياغة علمية أفضل، أو تُعدّل في أفضل الحالات([1]). ومن الدراسات التي يُستحسن أن يفتح طلاب الدراسات العليا أعينَهم عليها دراسة الظواهر اللغويّة المشتركة بين اللغات، وهُنا أعرض نموذجا بنظرية لسانيّة فتحت بابا واسعا للدراسات اللغويّة، ثم أُعقب بنماذج للظواهر اللغويّة المشتركة التي يُمكن أن تُدرس وتُعمم. أولا: نموذج للنظريات اللسانيّة، نظرية (معنى-نص) لإيغور مالتشوك. حيث وجدت عناية واهتماما من الجامعات ومراكز البحث، حتى خُصّصت لها مراكز بحث؛ تتبنى مسلماتِها، وتنشر أعمالها، من أهمها مرصد نظريّة (معنى-نص) بجامعة مونريال بكندا، حيث نتج عن جوانب الدراسة فيها قواعدٌ نصيّةٌ محوسبةٌ من ألسنة عديدة، أهمّها اللسان (الفرنسيّ، والإنجليزيّ، والروسيّ، والإسبانيّ)([2])، وهي تدرس جميع المستويات من الدّلالة، إلى الصوتيات، مرورا بالتركيب، والصّرف([3]). -الوظائف المعجميّة في نظرية (معنى-نص) صنّفها حسب الوظائف المعجميّة في نظريّة (معنى-نص) لمالتشوك في كتابه (مقدّمة لمعجميّة الشرح والتأليفيّة)، حيث بلغت الوظائف المعجميّة عند مالتشوك (ستا وخمسين) وظيفة معجميّة. ويشتمل محور العلاقات الجدوليّة على عشرين وظيفة، منها سبع وظائف دلاليّة، أساسها الترادف، والتضاد، والعكس، والمجاز، ثمّ مشتقات تركيبيّة قائمة على مفهوم النقل عند اللسانيّ الفرنسيّ لويس تانيار. أمّا العلاقات السياقيّة فتأتي من الوظيفة المعجميّة (21) إلى الوظيفة المعجميّة (27)، وهي وظائف وصفيّة نعتيّة، ومن الوظيفة المعجميّة (28) إلى الوظيفة المعجميّة (31) وظائف تهتم بالرديف (adverb)، ثمّ تليها جملة من الوظائف الفعليّة من (32) الى (56). ومن خلال هذه النظرية قمنا بدراسات لغويّة متعددة، أظهرت نتائج جيدة، ومن أبرزها ما يلي: أولا: الأفعال العماد: النموذج الذي أتحدث عنه، وأراه ممثلا للظواهر المشتركة بين اللغات، هو (الأفعال العماد)، ويأتي مصطلح (الفعل العماد) ترجمة للمصطلح الفرنسيّ (verbe support)، وللمصطلح الإنجليزيّ (light verb)، وهو في الدراسات اللغويّة الحديثة امتداد لظاهرة (الأفعال الناقصة) في البحث النّحويّ القديم. وقد نافس مصطلح الفعل العماد مصطلحات أخرى ك (الأفعال المساعدة) التي تساعد الفعل الرئيس في اللغة الإنجليزيّة في تحديد زمان الفعل، و(العبارات المتكلّسة) التي يدلّ فيها الفعل على غير معناه المعجميّ، و(الأفعال غير المشبّعة)، وهي أفعال تتطلب شيئا آخر مع مفعولها لتتم العبارة، و(الأفعال الناقلة)، حسب ترجمة تلاميذ مدرسة (هاريس) للمصطلح ((verbe support. وبلغت الأفعال العماد في القائمة المستخرجة من المدونة القديمة، والمدونة المعاصرة (ثمانين وأربع مائة فعل)، وهذا يفتح مجالا للباحثين للتوسّع في هذه القائمة. ومن نتائج هذه الداسة: أن الأفعال العماد قد نحت هذا المنحى من الفراغ الدلاليّ، والتجرّد من الحدث، وعدم الاستغناء بمرفوعها عن منصوبها؛ لقابليّة الفعل العماد للانتقال من المعجميّة إلى النّحويّة، وتوارده مع عدد من الوحدات الاسميّة، وتقبل التحوّلات بالمشاركات الدلاليّة، والاستعارة، والمجاز، وأظهرت الدراسة أن اشتراك العربيّة والفرنسيّة وربما الإنجليزيّة في عدد من الأفعال، يدعم فرضية أن هذه الظاهرة كونيّة، وتوجد في كلّ الألسنة. ثانيا: الوظائف المعجميّة في المصطلحات العدليّة (القضاء السعوديّ نموذجا). يمكن أن نُقسِّم المصطلحات العدليّة بحسب الوحدات المعجميّة؛ بالنظر إلى المعنى الدلالي للمصطلح العدليّ، وليس للفعل الوارد في التركيب فقط، كما يمكن تقسيمه بحسب الحقول المعجميّة التي تنتمي عَجْماتها الأساسيّة لها، حيث يدخل المصطلح الواحد في عدد من الوحدات المعجميّة، وفي عدد من الحقول الدلاليّة. من أهم النتائج التي توصلت لها الدراسة وضع قائمة بجميع المصطلحات العدليّة التي اشتملت عليها المدونة المدروسة، بعد ان عمل الباحث على استخراجها من المدونة، ووضع لها تقسيمات مناسبة حسب الوحدات المعجمية، والحقول الدلاليّة، والوظائف المعجميّة. ثالثا: الوحدة المعجميّة بين التراث النحويّ واللسانيّات الحديثة: حيث استفدنا من هذه النظرية في معرفة ما قال به علماء النحو القدماء، فوجدنا أن هذه الدراسة قد بيّنت أن مفهوم (الوحدة المعجميّة) لم يكن خافيا على النحاة القدماء، بل كان موجودا ولو بشكل يسير، ويظهر ذلك في: (الأفعال الناقصة، وأفعال المقاربة والترجي والشروع، وما ألحقوا بها) كما هي ظاهرة في: (الفروقات اللغوية، والأمثال السائرة). رابعا: أثر الوحدة المعجميّة في تعليم اللغة العربيّة لغير الناطقين بها: كما استفدنا من هذه النظرية، وبالاستعانة بالوحدة المعجميّة في وضع طريقة لتدريس وتعليم غير الناطقين بالعربيّة بالنظر إلى الوحدة المعجمية، في أبواب متعددة من أبواب النحو العربيّ، كما في الأفعال الناقصة، والحروف الناسخة، وأسماء الإشارة والأفعال والعماد، والأمثلة السائرة. وبعد هذا العرض فإنا نوصي بضرورة التوسّع في دراسة الظواهر اللغويّة، مع الاستفادة من البرامج الحاسوبيّة، والمدونات اللغويّة، والأدوات المساعدة في ذلك.
([1]) – المجدوب، عز الدين، المنوال النحوي العربيّ، مقدمة الطبعة الثانية، ص 5. ([2]) – ينظر المجدوب، مفهوم الوظيفة المعجميّة في نظرية معنى نص وأثرها في تعليم الألسن، ص (202). ([3]) – ينظر بولقار، نظرية معنى – نص، ترجمة: لبوخ بوجملين، جامعة ورقلة- الجزائر، ص (787).